"ولكن الماضي قد مضى. لماذا تريد أن تستخلص عبراً أخلاقية منه؟ عليك أن تنساه. أنظر هاهي شمسك المشرقة قد نسيت كل شيء والبحر الأزرق، والسماء الزرقاء؛ هذان قد قلبا صفحات جديدة" أجاب بعزيمة واهنة: "لانهما دون ذاكرة، ولأنهما ليسا بشريين."
كان عليّ أن أخترق أول التابوهات مطوّقة بخوفي وحده؛ فكيف لمخترق المحظور أن يكفّ عن الخوف وهو أمام كشف مدهش؟؟ شهوة مواجهة المجهول هي ما يجعل الخوف - وليس الإقدام - دافعاً لاختراق المحرّمات: الحواسّ البِكر تنقذف في التجربة وتجعلنا نبصر ونشمّ ونسمع ونتذوق ونلمس وفي الغالب نشمّ أكثر في الصمت، الخوف من الإنفضاح هو ذاته سرّ لذتنا في الإكتشاف، الإنفضاح وحده لا يكفي. مع أوّل كتاب لمسته يداي - غير كتب المدرسة - فغمت أنفي رائحة التبغ الخام ممتزجة برائحة الكتب الصفراء - الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيجٌ من روائح كانت تفور من نبع سرّيّ في حجرة معتمة تسلّلتُ إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبّب عرقاً وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب. الخوف من انكشاف تسلّلي إلى حجرة المُحرّمات يرعش يديّ النحيلتين وهما تقلّبان الكتب الشهيّة في بصيص نور يتسلل من كوّة وسط السقف يدعونها (السمّاية)، والكلمة تصغير عاميّ لصفة منسوبة للسماء. كانت السماء سندي في الإنغماس بالخطيئة الأجمل: إستراق قراءة الممنوع والمحظور. مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي؛ فدخلت ظلال الكلمات وأطياف المعاني وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي. أبي كان ماركسياً حالماً باليوتوبيا والعدالة موه وماً - شأنه شأن الكثيرين - بالنظرية التي سحرتهم وعودها الفردوسية، هو وصحبه كانوا يتداولون كتباً ومجلات وصحفاً تعذّر عليّ - وأنا إبنة التاسعة - أن أعي مضامينها، وكانوا يتعمدون إغوائي بقراءتها وما كنت أحفل بها آنئذ، أقلّبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت أكتبها وأرسم وقائعها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المقنّن حتى ملأت دفاتري المدرسية كلها بالحكايات والرسوم ونلت عقاباً من معلّماتي وزجراً من الوالدين. مقابل ضلال أبي الماركسيّ - كما كان يقال - كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مدى حرية الفكر وتفنيد ماهو مستقرّ وثابت من الأحكام كان زوج خالتي يقيم أذكاراً دينية كلّ ليلة جمعة في داره أو في خان البلدة القديم، ويؤمّ الذكرَ دراويشٌ ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياعٌ ولصوص يتقمّصون توبة لليلة واحدة، وكان يرقي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة ويقوم هو وجمعٌ من المريدين وعوائلهم بزيارات لمراقد الأولياء لتقديم الولاء والصّدقات وفكّ أسر المأخوذين واستنزال الخصب لأرحام النساء العواقر.
قال بازان ذات مرة: «ما نراه يدفعنا إلى القول: إن السينما ترسي عالَماً يطابق رغباتنا ». وكتاب «السينما الإيطالية » هذا يروي قصة هذا العالَم. احتلّت السينما الإيطالية، في سنوات ذروتها – التي بدأت في أواخر الخمسينيات واستمرت عشرين عاماً – المركز الثاني بعد هوليوود بوصفها مصنعاً لإنتاج الأفلام الجماهير ية. وكانت، خلال تلك السنوات، تصدِّر الأحلام السينمائية إلى مختلف أنحاء العالم. فقد صنع المخرجون الإيطاليون، مدعومين بتمويل دوليّ وبممثلين متعدِّدي الجنسيات، أفلاماً درامية وأفلام رعب وأفلام وسترن وأفلام جاسوسية وملاحم تاريخية وأفلام مغامرات وأفلاماً حربية وأفلاماً بوليسية وأفلام خيال علمي وأفلام تشويق سياسية وأفلاماً كوميدية، ببراعة وأسلوب لا يضاهيان. وقد حقق الكثير من هذه الأفلام نجاحات كبيرة على المستوى الدولي على الرغم من المقولة الشائعة التي مفادها أن السينما الإيطالية تقلّد أفلاماً أخرى وتتبنّى أفكاراً وحبكات راسخة وممثلين معروفين وأنها تستولي على أنواع سينمائية برمتها وتنسبها لنفسها. ومن الانتقادات الشائعة للمخرجين الإيطاليين أن أفلامهم لا تتمتع بجودة أفلام هوليوود التي يقلدونها على الرغم من أن النسخة تفوقت على الأصل في العديد من الحالات.
توقف منجل الزمن بين يديه مشدوهاً، كيف يفيض قرن الوفرة بيدها، بباكورة كل شيء، بإجلال، في حين يكدح البسطاء في المناجم البعيدة...؟... وتُشكِّل الأواني المصبوغة من الأرض البربرية؟... تلبية لطلبي، يضع المحارب المسلح درعه جانباً؛ يغادر الوثني بخور المذبح بأضحية آثمة، تتداخل زهرات البنفسج والورد الياقوتي في الأرض المحترقة، لا خوف للتائه الغافل من الأفاعي السامة، أما النحل فيسكبُ عسله الذهبي في الخوذة". توقفت... طابور طويل من القرويين بأقمشة الخيش يخرجون من بين الأشجار خلفها. يحفرون، ينقبون، يحرثون، يبذرون... يغنون، لكن الرياح تسلبُ كلماتهم بعيداً. تحت ظلّ ثوبي المنساب تتبع الفنون، تتجلى الموسيقا في كينونتي بإنسجام سماوي. وصيتي أن يغادر البخيل ما كنزّ عذرياً، فترى الأم أطفالها، بسلام يلعبون... أطفالها يلعبون...".
"هل سبق لك أن التقطت كتاباً من أحد متاجر الكتب المستعملة وحصلت منه على إيصال ما، أو اكتشفت رقم هاتف مكتوباً على ورقة غافية بين طياته، أو قرأت نقشاً عن مشاعر دافئة لشخص لم تصله؟ هل جعلك تتساءل عن حياة أولئك الذين قلبوا تلك الصفحات قبلك؟".
ولد آل سكورتا ملطخين بالعار لأن سلالتهم نشأت من اغتصاب شقي لعانس. في مونتيبوتشيو، بلدتهم الصغيرة في جنوب إيطاليا، يحيون في عوز، ولمن يموتوا أثرياء، غير أنهم عاهدوا أنفسهم على توارث القليل الذي منت به الحياة عليهم من جيل إلى جيل. لذا كانت ثروتهم، ما عدا دكان التبغ المتواضع الذي أنفقوا عليه "نقود نيويورك" ثروة لا مادية قد تكون تجربة في الحياة، أو ذكرى أو حكمة أو لحظة فرح عابرة. وقد تكون سراً كالسر الذي تبوح به كارميلا العجوز لكاهن مونتيبوتشيو السابق، خشية أن تفقد ملكة الكلام.
يعد كتاب "تضحية راديكالية" آخر ما كتب المفكر والناقد البريطاني "تيري إيغلتن"، وهو بمثابة دراسة معمقة عن التضحية، كجزء لا يتجزأ من مجتمعاتنا القديمة والمعاصرة، مركزاً على معانيها الدينية والفلسفية اعتمادا على النصوص الدينية وكتابات الفلاسفة والأدباء. يذكر أن "تيرينتس فرانسيس إيغلتن" هو أحد أهم الب احثين والكتاب في النظرية الأدبية ويعد من أكثر النقاد الأدبيين تأثيراً بين المعاصرين في بريطانيا، وهو أستاذ الأدب الإنجليزي حالياً في جامعة لانسيستر وهو أستاذ زائر في جامعة أيرلندا الوطنية في غالواي.
على اعتاب ألفية جديدة وقرن جديد فان الذي يصنع الحضارة الجديدة هو الغرب المتقدم.. ولسنا مشاركين في صناعتها.. جل ما نقوم به هو أن نستورد منتجات حضارتهم ليس إلا التي هي في اغلبها إما ترفيهي أو تدميري, ونعيش في حالة من الصدمة الحضارية عندما نزور بلدانهم ونرى إنجازاتهم.
السينما بلا شك هي أوسع الفنون انتشاراً في العالم. ولا يرجع السبب في ذلك إلى مجرد أن الأفلام التي تنتجها الدول المختلفة تعرض في كل أنحاء العالم. إنما يرجع قبل كل شيء إلى أن السينما تستطيع بما لها من حرفيات تتحسن يوماً بعد يوم، وبما تحققه من أعمال في تزايد مستمر، أن تقيم صلة عالمية مباشرة من الفكر الخلاق. ومع ذلك، نجد أنه لم يُستغل من موارد السينما التي لا تنفد، خلال نصف القرن الأول من عمرها، إلا جزء لا يذكر. أرجو ألا تسيئوا فهم ما أعنيه. فأنا لا أتكلم عما تم إنجازه، لأنه قد تم إنجاز الكثير الذي يعتبر ممتازاً بحق. ويحتل المكان الأول، فيما يختص بأقصى ما يذهب إليه المضمون، التيار المندفع للأفكار الجديدة والمُثل الجديدة المستحدثة على الشاشة بواسطة الأفكار الاجتماعية الجديدة والمثل الاشتراكية الحديثة. وأنا إنما أتكلم عما كان من الممكن عمله، وعما تستطيع السينما وحدها أن تعمله: وأعني تلك الأشياء الفذة المعينة، التي لا يمكن تحقيقها وخلقها إلا في دنيا السينما وحدها. فمشكلة الجمع والتأليف بين الفنون، وهو التركيب الذي يمكن تحقيقه في السينما، لم تجد الحل الكامل لها. وتنشأ في الوقت نفسه مشكلات جديدة بأعداد متزايدة. فما إن تمت لنا السيطرة على حرفية اللون، حتى اضطررنا إلى تناول مشاكل الحجم والمساحة التي أقامتها لنا السينما المجسمة، التي لم تكد تخرج بعد من ثياب مهدها. وهناك بعد ذلك، معجزة التليفزيون – وهي حقيقة حية تواجهنا في جسارة، وعلى استعداد لأن تلغي تجربة السينما الصامتة والناطقة التي لم يكتمل بعد تمثلها هي نفسها تمثيلاً كاملاً. فقد كان التوليف، مثلاً، في تجربة السينما الصامتة والناطقة، مجرد مرحلة (كاملة بصورة أو بأخرى) من المنهاج الحقيقي لرؤية الفنان للأحداث وعكسه لها بطريقة خلاقة من خلال وعيه وعواطفه. أما في التليفزيون، فيصبح التوليف هو منهاج الأحداث نفسها أثناء تقديمها وعرضها في نفس لحظة حدوثها.
هي أولى روايات الكاتب الأمريكي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد. ونشرت في عام 1920، وأخذ العنوان من جملة في قصيدة روبيرت بروك تياري تاهيتي، ويتناول الكتاب حياة وأخلاق الشباب ما بعد الحرب العالمية الأولى. بطل الرواية، أموري بلين، هو طالب جذاب في جامعة برينستون يحب الأدب. تستكشف الرواية موضوع الحب الذي يشوهه الجشع والارتقاء الاجتماعي.
حكم البريطانيون العراق من الحرب العالمية الأولى إلى عام ۱۹۳۲ ، وكانت طريقتهم في حكمه تعتبر طريقة جديدة بنظر كثيرين . فهم مارسوا سلطتهم ، بانتداب من عصبة الأمم ، عن طريق سلاح الجو الملكي وشبكة من المستشارين والمسؤولين في الدوائر الحكومية ، والسيطرة على أهم موارد البلد الاقتصادية ، النفط ، واستخدموا ه ذه السلطة لبناء إدارة ونظام سياسي يكونان قادرين على الوقوف بقدراتها الذاتية على المدى البعيد . وكان يعتقد عموما ، في ذلك الوقت ، أن التجربة ناجحة ، وبحلول عام ۱۹۳۰ ظنت الحكومة البريطانية أنها في موقع يتيح لها تأمین مصالحها من خلال معاهدة يجري التفاوض بشأنها بين أنداد ، وتقديم توصية إلى عصبة الأمم بإنهاء الانتداب وقبول العراق عضوا في العصبة .
نُزلاءُ المهازل. نُزلاءُ الأرقامِ الفاخرةِ الفنادق. نُزلاءُ الحمْضِ الهجينِ من تلاقُحِ الثمارِ الهِجان. ليس بوصفٍ للمصارعيْنَ هذا، بل تقديرٌ لا موثوقٌ للأحوالِ تعهَّدها السماسرةُ للأجساد منازلاتٍ بلا لَكْمٍ، او رفٍسٍ، أو نطحٍ: غَلبةُ الأذرعِ تطويقاً للأعناقِ. غَلبةُ التفافِ الأسرعِ قبْضاً على الخصم بيديْنِ تُحْنيانه حصاراً على كيانه من أعلى، ومن أسفلَ، بعَرَقٍ صبيبٍ في مَسيلهِ يتخالطُ نازفاً من الآباطِ بالعَرَقِ نازفاً من الآباض. عراكٌ يُلزِمُ المصارعَ جندلةَ الغريم أرضاً مغمىً عليه، صريعاً، مهدوداً، مُسْتنزَفَ العضل لا يقوى على احتمالِ النزالِ. سُكَّرٌ من مُسْتَحْلَبِ اليقظةِ بعد النومِ الخوفِ، أو النومِ في الخسارةِ الخوفِ، أو الخسارةِ في الخوفِ النوم. سُكَّرٌ نباتيٌّ؛ حيوانيٌّ؛ إنسانيٌّ.