تحت عنوان "الأعمال الشعرية" تقدم هالة النابلسي ترجمة للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الفرنسي "آرثور رامبو" (1854-1891) الشاعر الذي أثنى عليه فيكتور هوجو في بداياته وقبل أن يبلغ الحادية والعشرين توقف كلياً عن الكتابة، وباعتبار رامبو مشاركاً هاماً في حركة التدهور على ما ترى "المترجمة"، فقد أثر بطبيعة ا لحال في الأدب الحديث وكذلك الموسيقى والفن، ويُشار دوماً إلى رامبو على أنه واحد من الطائشين المتحررين من الأخلاق والعادات، وقد سافر في رحلات كثيرة إلى ثلاث قارات قبل أن تنتهي حياته في السابعة والثلاثين بمرض عضال هو السرطان. قدّمت المترجمة هالة النابلسي للكتاب بمقدمة أشارت فيها أن إنجاز هذا العمل استغرق واحداً وثلاثين عاماً، و"رامبو" بالنسبة إليها "مشروع العمر"، "كان شعره ينسرب داخلي ببطءٍ ليعود فيولد ثانية محافظاً على جميع قسماته وخصوصيته...". يقسّم الكتاب إلى سبعة أجزاء تمضنت ترجمة لأعمال رامبو وجاءت تحت العناوين الآتية: 1-الموسم الأول: الطفولة، 2-الموسم الثاني: الطريق المفتوح، 3-الموسم الثالث: الحرب، 4-الموسم الرابع: القلب المعذب، 5-الموسم الخامس: الحاكم، 6-الموسم السادس: الروح المعذبة، و7-الموسم السابع: بعض الجبن المتأخر.
وهي قصيدة واحدة طويلة، موزعة على فقرات ومقاطع فرعية، هنا نموذج منها: «العالقون عالقون أمام أبواب المخامر، لا تزجروهم، والناكصون ناكصون:وراء أولاء الأبواب تُبعثُ الأنهارُ للحساب أولاً، والحدائق للحساب على فضائح الشجر، ومروق الظلال، وهرطقة الممرات.حساب من
تحمل قصائد سنية صالح على كفيها رؤيا تفور بالعناصر الكونية التي تتحد بشقاء الإنسان، ففي قصيدة «القرينة» يؤنسن خيال الشاعرة الأرض، وكأنها امرأة معشوقة لها أطفال يجرون خلفها وأمامها كثوار، طغاة، سجناء، أحرار، أو يتحدون في كيانها مثل أجنّة. كل هذا في خيال بريء وغاضب في الوقت نفسه. لغتها برية، عفوية قادمة من عالم قاسٍ ومسحوق، لا يعرف الجمال، النزهة، العطور، الفتنة، والمتعة. عالمها يثير الاضطراب والقلق في النفس، لكنه بالوقت نفسه لا يندب ولا يستجدي، فيه يتحول المعقول إلى اللامعقول، واللامعقول إلى المعقول، فالشعر عندها يحول العالم، وكأنه سيمياء العالم، الذي يتجاوز المأساة ثائراً على الألم.
(فروغ فرخزاد)، بدأت في سنّ مبكّرة كتابة الشعر الغنائيّ بمواضيع رئيسة كشكوى بين المحبّين أو معاناة امرأة شرقيّة تناجي الرجل الذاهب، الظالم، اللامبالي، وردّاً على ما قيل عن النوع الأوّل الذي كتبته قالت: «إنّ الكلمات حتّى وإن كانت أدوات الشاعر ليست مهمّة بقدر المحتوى وإن تكن المفردات مكرّرة إلا أنّها فوران عشق كان مؤثّراً بالنسبة لي في تلك الحقبة»، (فروغ) لم تكن مع مصطلح الشعر الحديث والقديم بل الشعر هو ذاته في كلّ العصور، لكنّه يختلف من جيل إلى آخر والفرق - فقط - في المسافات الماديّة بين العصور، فالشاعر الذكيّ يجب أن يواكب عصره ويتّخذ معاناة الفترة التي يعاصرها مصدر إلهام لإبراز طاقته على كشف الحقائق المختبئة وإشهار الظلم والزيف، كما تعتقد أنّ فعل الفنّ هو بيان لإعادة ترتيب الحياة، والحياة لها ماهيّة التغيّر والتوسّع والنموّ، بالنتيجة البيان أو الفنّ في كلّ فترة له روح خاصّة به وإن كان عكس ذلك فهو مزيّف ومقلَّد. تقول الشاعرة: «إنّ عالمي – مثلاً – يختلف – تماماً – عن عالم (حافظ الشيرازيّ) أو (سعدي) حتّى يختلف عن عالم أبي، طريقة تلقي الشاعر والقارئ في فهم مفاهيم عدّة كالعشق والشجاعة والمعتقدات تختلف عن الأمس»، وتذكر مثالاً عن (مجنون) في الأدب: «إنّ مجنون هو أيقونة للعشق وفداء المحبوب في قصائد العصور الماضية»، اليوم – على حدّ رأيها – تغيّرت هذه الرؤية، فبتحليل الأطبّاء النفسيّين شخص (مجنون) مريض يحبّ أن يكون تحت سيطرة معاناة دائمة خاضعاً للعذاب غير ساعٍ للحريّة.
يعتبر محمد الماغوط من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة كحركة الشعر الحديث. كانت الرياح تهب حارة في ساحة الصراع، والصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر حين نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر؛ إذ أن موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي. وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود، وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر.
منذ سنوات يشجعني بعض الأصدقاء على ضرورة أن تكون أعمالي الشعرية مطبوعة كي تتوفر للمتابعين والمهتمين بغض النظر عن اختلاف رؤاهم ودوافعهم وحساسياتهم الجمالية والفكرية أو ندرة اكتراثهم بالشعر. كان جوابي دائما، بإيماءة إيجابية خجولة دفعا للإحراج، لكن أعماقي ترد بعكس ذلك، فمرة بالتملص وأخرى بخلق الأعذار من قبيل، أن الوقت غير مناسب أو أن تجربتي تحتاج إلى مزيد من الإضافات الجديدة وبعدها سنفكر في الموضوع. كل عمل فني حقيقي لن ينتهي مطلقا حتى لو رحل صاحبه، لأنه سيجد قناة أو أكثر للتواصل من خلالها حتى لو خضع لزحمة الأحداث المتشابكة التي لا ترحم. بيد أن حذري من وضع تجربتي الشعرية على المحك هو السبب الأساس على ما يبدو لترددي. لا أريد أن أسجن مسيرتي داخل إطار «الأعمال الشعرية» المطبوعة. كل شيء مفتوح على كافة الاحتمالات.
من بيت فلاح، ومن صميم الأسرة العصامية المكافحة انطلق الماغوط منتزعاً نفسه عن صدر أمه ليكون هبتها للوجود، ثم من بلده التي تعرت من كرومها، وبادلت ذهب السنابل ومساكب الورد وأصداء سوق الذرة وأنين المقاصب والصفصاف بموسم واحد من القطن، كان كفن الرغيف وإعصار الصحراء العاتي على كل أمل بعودة الحياة. ولما تهاوت الجذوع الهرمة، وسقطت عجائز الأشجار مودية بأعشاش الطيور، تقاوى على نفسه هذا الصقر المهاجر مرمماً جناحيه المهشمين منطلقاً من سفر عسير، وفضاء لم يدخر له أي شيء من الطقوس الرديئة. من العبث أن يستخدم لغة الكلام من أجل التحدث عن تلك الحقبة من عمره، فلعل ما علق من مزق الثياب، ومن بقع الرعاف وتشقق الأقدام على التلال والمقالع والمغاور والكهوف وفروع الأشجار المكشرة على التخوم ما يروي بمنتهى البلاغة والإعجاز بداية التشرد والتمرد والإصرار على لقاء الخلود. تتعدد أطياف الشعر عند الماغوط، تورف عرائشه على كل الجدران، وكمهندس بارع ما يني بوسع فتحة الفرجار على مدار واسع يشمل العالم كله والإنسان في كل مكان باعتباره آخر نتاجات الكون وأقدس من أن يداس. وكبناء مرهف خبير يضع الطوبة على الأخرى لينصبه في عقد القبة الكونية، ولسان حاله يقول: لتسقط كل الحضارات أمام طفل يفغر فاهه لقطرة من الحليب. يحاول الماغوط بكل ما أوتي من قوة الإحساس، وصدق المشاعر، وعمق المعاناة أن يجعل من الأدب شعاعاً قوياً يسلطه على الحياة من أجل اجتثاث المأساة من جذورها، واستئصال آفات الزمن الردئ. من غربته، من ثنايا وحدته، من كوابيسه المرعبة، والأشباح التي تقتحم لحظات رقاده القليلة، تطل عليك قصيدة الماغوط آخاذة جذابة، لا تتمالك نفسك من أن تنهال عليها كما ينهال الجائع البائس على الرغيف، والضال التائه على النجم الدليل تقرأها متسارعاً كما يتسارع نبض العدائيين، متسائلاً: أمام أية حقيقة ستضعنا سخرية الماغوط، وماذا هناك أيضاً من المفقودات الثمينة التي دفعت به لأن يقف في صحن محكمة التاريخ يهز ضميره، ويمسك بتلابيبه صائحاً: أوجدها.