في الغربة اكتشفت للمرة الاولى طويريج أو الهندية, المدينة التي ولدت فيها وامضيت فيها وحدها كل سنوات البراءة والطفولة والصبا, فمنذ ان غادرتها عائلتي الصغيرة والمعدمة نحو بغداد في منتصف 1961 وطيلة حياتي اللاحقة في عدد من اجمل واشهر عواصم الدنيا, لم تغادرني الهندية مطلقاً برغم انها تراجعت احياناً لتصبح مجرد ذكرى غابرة وحتى غائرة لا سيما بعدما غمرتنا بغداد بسحرها وكرمها من كل صوب. فدار السلام تلك تحديداً صارت مدينتي الاولى حال انتقالي اليها برغم اغواءات باريس ولندن وبيروت وسواهما من عواصم الدنيا التي عرفها العمر عن كثب. بيد الهندية وحدها المكان الذي اشعر حياله بحنين غامض ورومانتيكي وبعض الطمأنينة كذاكرة. فهذه البلدة المسورة ببابل وكربلاء وبورسيبا والاخيضر من جهاتها الاربع كالقمم, من نوع تلك الاوطان التي يمور في الواحد منا دفء نبضها بين آنٍ وآن, فنداريه كالجمرة الطيبة خشية الاندمال الكامل دون ان نعرف لماذا غالباً. بالنسبة لي اعرف لماذا: لقد ولدت ونشأت وتفتحت كل براعمي الاولى في طويريج, الاسم الآخر الموسيقى والجميل والتاريخي لقضاء الهندية الذي يندر ان يذكره ابناؤه دون بهجة صادقة بالانتماء اليه.
هناك قول مأثور "كل جديد من العراق"، ولا نريد من هذا القول استعراض الماضي وما أبدعته العقلية العراقية عبر التاريخ الواغل في القِدم من منجزات حضارية في مختلف الميادين، بل نقتصر على منجز واحد كان له الريادة في تاريخ البشرية هو "قانون حمورابي" إحدى سلاسل الشتريعات القانونية في العراق القديم.
في جديده الشعري "شمال القلوب وغربها" يقحم سليم بركات نقاط الضعف في قلوب العاشقين هم برأيه (عشاق لم يحسموا أمرهم) عشاق مذهولون، حائرون ومحيرون كالقصيدة ذاتها: "عثروا على الحب قبل العثور على قلوبهم / هم أهواءُ كلماتٍ تسابقهم حباً بالكلمات / هم أهواء الومضةِ في خيال الكرزِ، / وحظوظاً لا يثق بسَندِها التفاحُ، بل التوت / همُ البداية مدهشةً مُذْ لا نهاية مدهشة ...". وبهذا المعنى هو كتاب عن العشاق بطبائع مختلفة، وطبائع محتملة،وطبائع إفتراضية. عشاق بحب مؤجل، وقلوب مؤجلة في اللعبة الشعرية، مع خطط كثيرة للإيقاع بهم في مفاجآت قلوبهم: "ولكل عاشق عشرة قلوب، تسعة مفقودة إذا عُثر عليها حسم أمره عاشقاً" هو شعر محيّر، يلقي بقارئه كإلقائه بعشاقه في الحيرة، هو محاولة من الشاعر لاستنطاق القلوب وفتح مفاليقها. وكل ذلك يأتي في نسيج شعري شفاف وجميل لا يقف عند حدود غجتراح الفكرة والإيقاع البصري والإيقاع الدلالي، وإيقاع التجربة نفسها، لكنه يخرج بكل هذه المؤتلفات إلى اجتراح خطاب متمرد تشكل في أعماق اللاوعي وتمظهر عبر المرونة الشعرية في قالب دينامي وبهيكلية خطاب شعري تحديثي. و "شمال القلوب أو غربها" هي قصيدة طويلة مؤلفة من مقاطع شعرية تمتد على طول صفحات الكتاب
كانت بغداد وما تزال وستظل الى ابد الآبدين ملهمة الشعراء ومصدر وحيهم وإلهامهم, وقد طفحت كتب الأدب ودواوين الشعر في مختلف العصور بعواطفهم وعرائس خيالهم فقد تغنّى بها البدوي والحضري والعراقي والحجازي والشامي والمصري والعربي والعجمي على السواء ولا عجب في ذلك ولا غرابة فقد كانت حاضرة الخلافة العباسية مدة اكثر من خمسة قرون.
بعد إعداد المخطوطة من جديد، قدمتها إلى وزارة الثقافة والإعلام في بغداد، فطبع في 1971 طباعة أنيقة جداً ضمن سلسلة الكتب الفنية. ولقي الكتاب إهتمام المثقفين من القراء بصفة خاصة، لا سيما من لديهم خلفية رياضية، بعضهم اتصل بي وأعرب عن إنذهاله بالكتاب، وأنا أعترف بأن مثل هذا الكتاب يمكن أن يغني مؤلفه لو طبع في الغرب.
يبدأ الكتاب بسؤال جوهري سيظل يواجهنا لعقود: ((أهو دين أم تديّن أم تديين؟ أهو إسلام أم تأسلم أم أسلمة؟ أهو دين ايديولوجي محدد العقائد والغايات في أذهان معتنقيه؟ أم هو صورة إدراكية سيكولوجية حمّالةُ أوجهٍ حد التشظي، ونحو كل وجه منها يتجه جمهور محروم ومتعصب ومتعطش لأي يقين يريحه من أزمته الهوياتية المتفاقمة في عصر عولمي، تهيمن فيه أصنام التكنولوجيا وتنحسر العقلانية وتسود اللامعيارية؟!)) فقد افتتح العراق القرن الحادي والعشرين بتجربة الدين السياسي الحاكم، وانبثق بأثرها ما صار يعرف بنظام “الطائفية السياسية” القائم على أساس ديني بالدرجة الأولى، والذي ألحق مصيرَ البلاد والبشر بقوى ما وراء الطبيعة التي يدّعي وصلاً بها. ، فبات العراق اليوم يشهد ما صار يُصطلح عليه بـ”الأسلمة” Islamization، أي سعي الأحزاب والجماعات الدينية بمذاهبها وتوجهاتها المتعددة إلى أسلمة السلطة والدولة والمجتمع والفرد في آن معاً، بكيفيات ودرجات متنوعة، مستعينةً بصناديق الانتخاب للوصول إلى غاياتها؛ بمعنى نزع الصفة البيولوجية أو الاجتماعية التطورية عن الحدث، وإلباسه هويةً ماورائيةً مطلقة تتجاهل نسبية عناصر المكان والزمان، بما في ذلك: أسلمة العلوم والفنون والآداب والقوانين والأزياء والعادات والعلاقات الاجتماعية والحريات الشخصية والعامة وحتى التحية والألفاظ والنظرات والأحلام. تتلخص الأطروحة المركزية للكتاب بالقول: ((إن محاولة فرض الأسلمة السياسية على المجتمع العراقي، هي خيار يقع بالضد من النزعة “العلمانية الاجتماعية” الراسخة لهذا المجتمع. لذلك فإن أحد الأسباب الرئيسة المفسرة لاستمرار مسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق هو نزعة الأحزاب الدينية الحاكمة فيه لتشكيل المجتمع على شاكلتها، أي محاولة تطييفه قسراً عبر إخراجه من هويته المسلمة المسالمة بمذهبيها المتعايشينِ وإدخاله في هويةٍ تأسلمية متعصبة بمذهبيها المتصارعين)).
ما انفكت تجربة الشاعر العراقي، فوزي كريم، تؤكد ثراء مسارها وصوتها الخاص، فهي تجربة «الشاعر الوحيد»، يوم كانت القصيدة «انتظاماً جماعياً»، لا بين جيله الستيني «الشديد الصخب» في العراق، بل عربياً أيضاً. وإذا كانت حاله على هذا النحو الخاص، في أيام صعود الصوت الثوري الجماعي، فكيف بها وقد مضى العصر في دروب الانهيارات والمنافي والخراب المادي والمعنوي للبلدان والبشر.
في رواية من يرث الفردوس, ثمة حصن أثري مهجور ينطوي على أسرار ومفاجآت يلاحقها عاشقان ويكشفان غموض الأحداث والأسرار الخفية, فقد تشكل في الحصن النائي منذ ثلاثين عاماً مجتمع عشوائي قوامه نساء ورجال فرّوا من مدنهم لأسباب تتعلق بالضغوط الاجتماعية والسياسية والدينية للبحث عن حريتهم في العيش والعشق والفكر وا لفن ويقيم العشاق والشعراء الهاربون ما حسبوه فردوساً يوتوبيا يعتمد اقتصاداً بدائياً وأسلوب عيش متّسم بالزهد ويجري تقسيم العمل فيه حسب التكوين البيولوجي للأفراد, من دون الاعتداد بالأبعاد الثقافية التي اكتسبتها الإنسانية عبر العصور مما أنتج مجتمعاً تغلي فيه الصراعات الثقافية المختزنة في الذاكرة, تحت سكونه الخادع وأسراره, ويتوهم القائمون على إدارة الحصن أنهم حققوا العدالة وهي في الحق عدالة زائفة مسخت الفرد وحوّلته الى نبرة واهنة في النشيد الجمعي وأهملت أشواق الروح وصادرت خصوصية الحب وسخرت الفن تسخيراً ذرائعياً فظّاً, لتتفجر التناقضات التي حملها الرجال والنساء من مجتمعاتهم السابقة عندما يتسلًل نظام السوق ويخترق منظومة الحصن فتجري أحداث متلاحقة وتنكشف الأسرار والألغاز التي يصدم الكثيرون لدى افتضاحها.
هي سيرة لم تكتمل لمناضل يقول عن نفسه إنه إنسان عادي جداً، ولا يزعم غير ذلك؟ وهي تجربة نادرة: أن تجلس صحافية إلى مناضل يعيش أيامه الأخيرة على فراش المرض، فتسجل له نتفاً من يومياته وتجاربه السياسية ولمحات عن أصدقائه الشخصيين والبعض من آرائه السياسية في الأوضاع العربية عامة، وفي حالة العراق بشكل خاص. لقد أجرت الحوار منى سكرية، وكتبت في هذا الكتاب "سيرة" محمد الحبوبي، الذي حكى لها "وسرد وتذكر وأعاد الذاكرة، ذاكرته الخاصة إلى ما وراء الطفولة والمراهقة والصدمات ...". ستنقل إلينا سكرية في صفحات هذا الكتاب "صورة شاب عربي أضاء بأحلامه سنوات تعب، فأحب وطنه العربي وخانته ظروفه .. وأحب الإنسان أي إنسان يشبه قائمة مسلماته الأخلاقية العنيدة، فوجدهم في لائحة أصدقاء بعثوا فيه ما قبل الرحيل ...". قدم للكتاب بمقدمة الأستاذ طلال سلمان الذي اعتبر الحبوبي مناضلاً إستثنائياً "جمع في تجربته بين أفكار العروبة من دون أدلجة، وبين الماركسية بالقراءة والسماع، وبين "نجفيته" من دون تعصب لشيعيته، وبين التعاطف مع الأكراد العراقيين، والعمل مع المقاومة الفلسطينية كمتطوع، ومع النخبة الناصرية كمبشر، وعاش بعض حياته في القاهرة وبعضها الآخر في دمشق وبعضها الثالث في بيروت، وبعض البعض في ألمانيا، متابعاً بحثاً عن اليقين ...". وعليه، يحتوي هذا الكتاب على وقائع الحوار الذي أجرته المؤلفة مع محمد الحبوبي وذلك بتاريخ "بعد ظهر الأربعاء في 26/9/2012، وأكملتها – والكلام للمؤلفة – بامتداد اليوم الثاني من الخميس 27/9، وفي جلسة أخيرة من مساء يوم الأحد 30/9/2012" لتنتهي المحاورة بمذكرات وأحداث ووقائع، وآلام وأحلام، كان الموت هو الجزء الناقص منها ... ، وداعاً أيها الإنسان الشهم الذي أضاف إلى صورة المناضل شيئاً من الكبرياء، وخفف شيئاً من الإدعاء.
ملحمة جلجامش أول نص سردي/شعري في تاريخ الحضارات الإنسانية. وصار مركزاً دالّاً على المرحلة الأكدية، التي استطاعت إعادة انتاج الاساطير السومرية الخمس وجعلت منها نصاً ملحمياً جسّد الصراعات المحتدمة بين الانظمة الثقافية وخصوصاً نظام الام الكبرى والآلهة المؤنثة والنظام الذكري الذي توفرت له الشروط الموضوع ية والذاتية للصعود، وانهيار النظام الثقافي والديني للام الكبرى. لم يكن نص الملحمة منشغلاً بثنائية الحياة والموت مثلما هو شائع. لان هذه الموضوعة عرفتها كل الحضارات، بل تمركزت حول صراع النوع ولم ينسحب النظام الثقافي والديني للام الكبرى كليّاً بل ظل حاضراً عبر عقائده وطقوسه ورموزه، وارتحلت كلها الى النظام الثقافي الجديد الذي أضفى عليها خصائصها الثقافية. وتبدّى هذا اكثر وضوحاً مع الرموز الأمومية. هذه الدراسة بداية مشروع المعموري الخاص بالمسكوت عنه، صدر للمؤلف عن دار المدى ملحمة جلجامش والتوراة،وتقشير النص.
يسجّل، معتمداً على الذاكرة، سخرية ولذاعة مدينة عراقية اعتادت أن تحوّل انقلابات حياتها وتقلبات يومها إلى سخرية مستمرة لم تتوقّف حتى في أحلك ساعاتها وأشدّها ظلمة. الكتاب الذي يتنقل بين سِيَر الساخرين الأشهر وحوادث السخرية التي ثبّتت أقدامها في الذاكرة بفعل أبطال مغمورين لم يعرفهم أحد ولم يلتفت إليه م، هؤلاء هم ساردوا سيرة الحلّة الحقيقية، رواةٌ كانوا أم كَتَبة. منجم الخيال الحلي، يمزجه الكاتب مع ذاكرته ليصنع المشهد المكتمل الذي خطط له أن يدخل قارئه في طيف من الحالات الإنسانية مخططا بتحكم إلى ضمان عدم سقوط أبطاله في رتابة الحالة واحدة.