حين يُذكر شعر الحرب العالميّة الأولى، يبزغ في الذّهن حالاً، الشّعر الإنجليزي، وتتّضح تلك المجموعة المعروفة في العالم من الشعراء الإنجليز الشباب، حتى لكأنّهم المقصودون بتسمية «شعراء الحرب الأولى». ولا يبدو هذا غريباً إذا علمنا بأن عشرات وربما مئات القصائد كتبت بالإنجليزية خلال الحرب العالمية الأولى. وإذا كان شعراء العالم الآخرون ممّن دخلوا تلك الحرب كانوا إما متطوّعين، فدخلوها مختارين، أو أنهم دخلوا الحرب مراسلين أو معالجين طبيـين، والقليل منهم جداً كانوا جنوداً مقاتلين. أما الشعراء الإنجليز فبعضهم جاء موعد تجنيدهم فالتحقوا بالجيش، والآخرون شملتهم التعبئة العسكرية فارتدوا الكاكي وحملوا السلاح. وقد عرف أولئك الشعراء الحرب في البحر أو في الخنادق، والباقون منهم المراسلون والمعالجون الطبيون.
"ماذا تسمّي الالتماعات الشجاعة، حين يأنس المرء بلحظته دائماً، ولا يأسف على ما فات، ويقتحم ما سيأتي به الغد من دون خشية؟ هي دهشة الطفولة في أول العمر، والحلم الرومانسي لتغيير العالم وبنائه من جديد، في وسط العمر، والومضات الشحيحة للسعادة مثل غمزات النجوم في ليل غائم، آخر العمر، شعرية العمر هي في ديموم ة الدهشة، وهي الشباب الذي لا يشيخ، فليس الشباب زمناً معيارياً للعمر تحدّده السنوات، إنما الشباب حقاً رؤية متقدمة للعالم تتجاوز إحباط السنوات التي تخترقك، ومن هنا، ما لم يخضع العمر لقانون الشعرية بهذا المعنى، فإن المرء سيتثاءب حياته ويبصقها من الضجر. "كنا صغاراً نمتطي قصبة لا نتخيلها حصاناً إنما نراها حصاناً حقاً نرفع أعجازنا عن القصبة حين نسرع، ونقعدها حين نتريث في السير، وبعد جولتنا، نُركن القصبة الحصان عند جدار، نشدّ مقدمها بالحبل بحنوّ بالغ.. هذه هي الشعرية الأولى من عمرنا.
في جديده الشعري "شمال القلوب وغربها" يقحم سليم بركات نقاط الضعف في قلوب العاشقين هم برأيه (عشاق لم يحسموا أمرهم) عشاق مذهولون، حائرون ومحيرون كالقصيدة ذاتها: "عثروا على الحب قبل العثور على قلوبهم / هم أهواءُ كلماتٍ تسابقهم حباً بالكلمات / هم أهواء الومضةِ في خيال الكرزِ، / وحظوظاً لا يثق بسَندِها التفاحُ، بل التوت / همُ البداية مدهشةً مُذْ لا نهاية مدهشة ...". وبهذا المعنى هو كتاب عن العشاق بطبائع مختلفة، وطبائع محتملة،وطبائع إفتراضية. عشاق بحب مؤجل، وقلوب مؤجلة في اللعبة الشعرية، مع خطط كثيرة للإيقاع بهم في مفاجآت قلوبهم: "ولكل عاشق عشرة قلوب، تسعة مفقودة إذا عُثر عليها حسم أمره عاشقاً" هو شعر محيّر، يلقي بقارئه كإلقائه بعشاقه في الحيرة، هو محاولة من الشاعر لاستنطاق القلوب وفتح مفاليقها. وكل ذلك يأتي في نسيج شعري شفاف وجميل لا يقف عند حدود غجتراح الفكرة والإيقاع البصري والإيقاع الدلالي، وإيقاع التجربة نفسها، لكنه يخرج بكل هذه المؤتلفات إلى اجتراح خطاب متمرد تشكل في أعماق اللاوعي وتمظهر عبر المرونة الشعرية في قالب دينامي وبهيكلية خطاب شعري تحديثي. و "شمال القلوب أو غربها" هي قصيدة طويلة مؤلفة من مقاطع شعرية تمتد على طول صفحات الكتاب
أيها الوقت.. هأنذا بين عقربيك.. دون لافتة تدلّ العابرين على بقاياي.. خذ وتري الحزين.. وامنحني قمر الحضور.. لأزرع الهوس في الشارع.. فقط أعد لي وجهي القديم، أعدني لبعضي..! لأطير الى جهة خامسة.. ولو بجناح مكسور..!
يقول ماريو بارغاس يوسا إن بورخيس هو الذي فتح بوابات أوربا والعالم أمام الرواية الأمريكية اللاتينية في الستينات، وهنا في ست محاضرات يحكي بورخيس عن الشعر الجديد والقديم من زوايا خاصة، وفي لغات متعددة، تلعب الذاكرة الشخصية فيها دوراً إبداعياً في الأفكار والتشريح وبورخيس حالة إبداعية ملونة ومبهرة.
على فصِّ خاتمِهِ الأزرق وضَعَ طغراءَ النورِ والماء. طغراء تشّف عن أمواجٍ تبرقُ من قصيدةٍ عن الطبيعةِ والجمالِ والحكمة لم يتممْها. وعن قلبِ فَراشةٍ طائرةٍ من جملةٍ موسيقية تتموجُ على وجهِ البرق. هناك، في القاع، أسفل الطغراءِ التي وَضَعَها على فصِّ خاتمِهِ الأزرق، حيثُ يختلطُ النورُ بالماء.
في كل جديد يقدمه "سليم بركات" طفرة إنسياقية وراء اشتغال حداثي، ينزع إلى الغرائبية، وينهض على أساس تنويع متجدد في الآليات الصياغية القادرة على بث متعة التلقي لدى القارئ "عجرقة المتجانس" قصيدة ملحمية، يلجأ فيها الشاعر إلى اللغة اليومية، وغلى نسق من العفوية والكشف في آن معاُ بكل ما تحمله اللغة الشعرية من البناء والنظم التي تميزت بها شعرية سليم بركات
"ما أتعس الكلمات/ ما أتفه الآراء/ في وقتنا الراهن/ والحبل/ على الجرار/ واللوم في الأول/ حتى وفي الآخر/ يلقى على من كان/ قد كبل الأفكار/ بالعسف والتحديد/ حتى وبالتنديد/ والنفي والتشريد/ فجف وادينا/ وشحت الأمطار(...)". إن الشاعر سعد الحميدين في "غيوم يابسة" يتأمل المشهد الكوني وتعددية كارثية حلم العالم وحلمه الشخصي، فيبدو أشد حساسية وهو يؤسس لخطابه الشعري، وتبدو هذه القراءة عبر تدوينات الوجع والألم والأنين الذي تتضح من الإشارات النصية في قصائد الشاعر التي تتماهى خلالها الذات الشاعرة إلى حد الذوبان في أفق المعنى الحياتي والجوهر الشعري وحتى في فوضى الذاكرة ومغامراتها في تأسيس الدال المتشرب لتراث القصيدة وإخصاب الرمز بالشعرية،
كيف عرفتَ بأني احيا، اني مازلتُ، كما الدنيا، أتنفّسُ، امشي، أضعُ المعطفَ أُلقيهِ...؟ هل تعلم اني ميتةٌ منذ سنينْ؟ أقبيةٌ لا تعرفها الدنيا يولَدُ فيها بشَرٌ ويموتونْ. يستيقظ فيها الصبح، يرى اكوام خسارات محترقه ويرى ارتال دخان تتحرك لا تدري وجْهتَها والشجر الواقف في الجهتينْ ينتظر الحكم عليه؟ هي تلك م دينتنا، كل الايام هنالك ماتتْ خنْقاً، لا احدٌ يفتح باباً ويرى!
ذات يوم وعند مدينة بحرية ، مفعمة بصخور حادّة وبحر لا يهدأ واشجار تتقاسم المنظر ، وتلال رطبة ، مزهرة طوال العام ، وحقول ممتدة في أرض خصبة ، هناك في مدينة مونفاسيا ولد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس 1909 - 1990 كسليل آخر ، للأغارقة الغابرين ، في يونان اصطخبت فيها العلوم والفنون والأشعار . طفولة ريتسوس لم تكن طفولة يسيرة ، بل كانت شاحبة وصعبة ، في عائلة تتكون من أربعة أطفال ، كان ريتسوس أصغرهم سنّاً ، عائلة تتناهشها الأمراض كالسل والجنون ، السل الذي اصاب أخته وأصابه هو ، والجنون الذي ألم بالأم ، والأب كان شبه معتوه قضى أيامه الأخيرة في لعب القمار ، بعد أن عاشوا في الماضي حياة رخية . إن شعر ريتسوس المشبع بأشياء الحياة وتفاصيلها ، شعره اليومي الأليف والمرهف هو خزين للظلال والضوء والحركة ، للنور الساقط على الأرض ، شعر يبدو في ظاهره بسيطاً ، بيد إنه شديد العمق حين يستغرقنا داخلين في شبكته الخيطية ونسيجه الباهر ، متين البنيان ، ضاربة جذوره في تراب الأسطورة الإغريقية ، لقد كان ريتسوس أهم شاعر في القرن العشرين بإعتراف كبار شعراء عصره كالفرنسي أراغون وشاعر تشيلي نيرودا وشاعر اليونان بالماس وغيرهم ، قصائده قرأها الملايين ، حتى أن الملاعب ومدرّجاتها كانت لا تتسع لمحبي شعره ، كيف لا وهو سليل أسخيلوس وهوميروس ، وأيضاً كفافي وبالماس وسيفيرس ، وريث لغة الأساطير والملاحم ، وريث الثقافة الإغريقية المتنوعة ، وريث فلسفتها وجدها وتحولاتها عبر التاريخ ، منذ أرسطو وسقراط وأفلاطون ، هو نتاج هذا التراث الفلسفي المترع بثقافة دينية - أرثوذوكسية وميثولوجيا ممتدة إلى بدايات الخلق والتكوين ونشأة المنطق والسؤال الوجودي الذي كان يطرحه المناطقة والفلاسفة وحكماء للوغوس في الأكروبول . إذاً شاعرية ريتسوس وثقافته ومعرفته هي مزيج من كل هذا ، مزيج متداخل ومتواشج مع حيوات كبرى وتفاصيل موغلة في عمق الحاضر اليوناني ، إنها ثقافة الحاضر المتجلي في الماضي ، الوثنية إلى جوار المسيحية ، الميتافيزيقية بمحاذاة الماركسية ، المادية حذاء المثاليّة ، الفاشية مقابل الشيوعية ، والأخيرة هي التي جرته إلى ضواحي وأزقة سالونيك العالية ، حيث النضال ضد الديكتاتورية ونظام العقداء السود ، كل هذا تجده يتنفس ويحيا ككائنات لها روح ودم في شعر ومسرحيات وروايات ونثر ريتسوس .