سيخرج مع ساعات النهار ا لأولى، يتجول في مدينته لآخر مرة، ثم ينطلق صوب الساحة الكبرى، يقف تحت لوحتها الصخرية، فيعدد الأسماء كلها، يأتي عليهم واحداً واحداً، أصحاب العمائم والخواتم واللحى والبدلات الأنيقة والسراويل، يذكرهم بأسمائهم وألقابهم الصادقة والكاذبة، فإذا انتهى من آخرهم، يشعل أعواد الثقاب. تناول علبة الكبريت، هزها عدة مرات، جلس على الأرض، يستعين برطوبتها الباردة على حرارة أحزانه، يريح على صلابتها متاعب سنينه المرهقة، عمره الذي ضاع ما بين جبهات الحروب وعذاب السجن ومتاعب ما بعده، فصار كائناً موجوعاً في نومه ويقظته، مسكوناً بالحزن والألم، حتى ذكرياته انقلبت ضده، عدواً شرساً لا يرحم، يجلده كلما وجده مسترخياً، يمزّق صمته بصيحات مرعبة كلما أراد الانقطاع عن هذا العالم.
«شوو! شوو! » - اندفع السيّد پالومار إلى الشرفة يطرد طيور الحمام التي تأكل أوراق الغزانيا، وتثقب بمناقيرها النباتات العصاريّة، وتتشبّث بمخالبها في فروع الجُريْس المتدلّية، وتأكل ثمرات العليق، وتنقر البقدونس المزروع في صندوق قرب المطبخ ورقة بعد ورقة، وتحفر وتخربش الأصص منتزعة منها التربة ومعرّية جذور النباتات، كما لو كانت الغاية الوحيدة من طيرانها هي تخريب كلّ شيء. الحمام الذي أبهج طيرانه يوماً ساحات المدينة خلَفته ذريّة فاسدة، قذرة وملوّثة، لا هي بالأليفة ولا هي بالبرّية، بل مندمِجة في المؤسّسات العموميّة، وبالتالي لا يُمكن إبادتها. سماء روما سقطت من زمان تحت سلطان الكثرة الطاغية لهذه الطيور، التي جعلت الحياة صعبة لجميع أنواع الطيور الأخرى في المنطقة، والتي تغزو مملكة الهواء الطليقة والمتنوّعة ببزاتها المتشابهة المنتوفة ذات اللون الرصاصيّ الرماديّ
يتضمن هذا المجلّدُ، إلى جانب قصة "السيد والخادم" التي لعلها أغرب ما كتبه تولستوي في قدرتها الإيحائية والتي تشكل وثيقةً حقيقية من وثائق الأدب العالمي الشامل، مجموعةً من الأقاصيص والحكايات الشعبية التي تتدرّج من 1895 إلى 1909 (أي قبل موت الكاتب بسنة) والتي تنتمي في معظمها إلى النوع التثقيفي الذي تبنّا ه مؤلفُ "آنا كارينينا" قبل نحو خمس عشرة سنة، وَلْنُبادرْ إلى القول: إننا أضفنا إليها بعض النصوص التي استلهمها أو حاكى بها مباشرةً كُتاباً آخرين، ولا سيّما "موباسان" مثل "نُزُل وسرات"، و"بوذا"، و"كارما"، و"أربعون عاماً"، و"مفرط الغلاء"، والتي من أجل ذلك أثًبتتْ. وفي آخر هذا المجلد، مع أنها ألفتْ في فترةٍ أَسبق أحياناً من الحكايات التي تُدعى الحكايات الشعبية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قصة "حياتي" التي ليست من عند تولستوي، لكنها من عند فلاّحةٍ تُدعى "آنيسيا" كانت تسكن آنئذٍ "كوت شاكي" على مقربة من "إيا سنايا بوليانا"، وقد حبرت السرّاء والضراء، ولحقت بزوجها المنفيّ إلى سيبيريا، ثم ترمّلت وانتهت بأن تزوّجت مُستخدم كنيسة القرية، وكانت "آنيسيا" تُحسن القَّص، مثل كثير من الفلاحين الروس، ولذلك فإن أخت الكونتيسة تولستوي، "تاتيانا كوزمنسكي" التي كانت تصغي إليها بسرور، قد جمعت قصتها.
لم تكن السيدة دلُواي تلك السيدة الإنجليزية التقليدية فحسب، إنما تحولت بقلم فرجينيا وولف إلى بطلة حية إلى الأبد في واحدة من أهم مئة رواية في القرن العشرين، ففي هذا العمل الفذ استطاعت فرجينيا وولف أن ترصد الواقع اليومي، دون أن تتورط في نزعة التوثيق البليدة التي تبعث على السأم. كما نجحت في إبقاء الشخصي ات فعالة، تعيش واقعًا مرهونًا بما يجري لحظة الكتابة بلغة رشيقة تبث الحياة في الأشياء والأحداث التي تشكل واقعنا اليومي. وإظهار ما كان خافيًا تحت سطح الحقائق عن طريق الانطباعات التي ترصدها السيدة دلُواي منذ أن عقدت النية لكي تخرج من البيت لتشتري الزهور.
ولنبدأ بإيجاز بقصّ الأحداث الشخصيّة التي أدّت إلى كتابة رواية «الشوشاريّة». يجب أن نبدأ هنا بيوم 8 أيلول 1943، بيوم عسير على إيطاليا وعلى المؤلّف: «ذات صباح بعد 8 أيلول قال لي شخص هنغاريّ كان يترأّس رابطة الصحافة الأجنبيّة فلتعلم أنّك في قائمة الأشخاص المطلوب اعتقالهم» (من مورافيا إلى إينزو سيشيليانو ص 56). عندها أسرع مورافيا ليسافر مع زوجته إيلسا مورانتِه من روما، وتوجّها نحو نابولي، على أمل أن يعبرا الجبهة. لكنّ القطار توقّف قرب فوندي، فعزم الزوجان على الذهاب إلى الجبال الشوشاريّة تجنّباً للقصف وشِباك الاعتقالات، وهناك عاشا لثمانية أشهر في كوخ في نواحي سانت آغاتا (وهي سانت يوفيميا في الرواية) بصحبة نازحين آخرين. ولم «يتحرّرا» إلّا في نهاية أيّار 1944 عندما تمكّنا أخيراً من الوصول إلى نابولي، ثمّ إلى العاصمة روما بعد أن تحررت في حزيران. تركت هذه الأشهر الثمانية التي قضياها بين الشجيرات أثراً لا يمّحى في نفس مورافيا، وقد قال بعد مرور عدّة سنوات إنّ حدَثيْن عملا على تغيير حياته بصورة واضحة: سلّ العظام الذي أصابه وهو في التاسعة من عمره ثمّ الحرب. عاش وقتها في كوخ لدى فلّاح اسمه دافيده ماروكّو (باريده في الرواية) وقال إنّه لم يعد يفكّر إلّا في العيش كيفما اتّفق، ومن غير أن يكتب شيئاً «فلم يكن لدينا لا قلم ولا حبر»، بينما نقرأ في شهادة ماروكّو أنّه كان يقضي جلّ وقته في الكتابة على دفاتره. ومن يدري إذا كانت تلك الدفاتر ستظهر يوماً ما. ومن الممكن أنّه كان يكتب ملاحظات عن بعض الأحداث والأشخاص والأفكار التي تخثّرت بعد ذلك في ثلاثة أنواع من الكتابة عند عودته إلى روما: – كتابات سياسيّة كالتي ظهرت في كتب مثل «مذكّرات سياسيّة» و«الإنسان هدفاً». «نحو 1946» وهو كتاب عن تأكيد الثقة بمستقبل الإنسان. – كتابات سيرة ذاتيّة عن تلك التجربة وقد ظهرت منها سلسلة من الأحداث في رواية «الشوشاريّة». وهنا صرّح المؤلّف بالذات قائلاً إنّ جوقة تلك الرواية لا تحتوي إلّا على ثلاث شخصيات مبتكرة، هي: تشيزيرا وروزيتّا وميكيله. كما أنّها تساعدنا على فهم طريقة عمل هذا الروائيّ بتقنيّة اندماجيّة.
وأنا لا أريد التكلم عنك. علاقتنا كانت إلى حد ما غير اعتيادية، ليس من السهل دائماً على الآخرين استيعابها. أنا لم اسأل قط ، ولذلك لا أعرف ماالذي أخبرت به إحدى زوجاتك عن علاقتنا. كنت دائماً أشعر بالامتنان ، مع أن الزوجة الثالثة لم تكن صديقة لي مثل الزوجة الأولى، على الأقل لم تكن عدوة لي مثل الزوجة الثانية
لضائعة نُشِرَت رواية «الضائعة» للمرة الأولى في إنكلترا عام 1920؛ في شهر أيلول وِفقاً إلى إفادة ناشر لورانس، وفي شهر تشرين ثاني وِفقاً لواضع بيان مؤلفاته. غير أنه كان قد باشر العمل فيها قبل ذلك بثماني سنوات، والمسوَّدة الأولى للجزء غير النهائي من الكتاب كُتِبَ ما بين عامَيّ 1912 – 1913، مع المسوَّدة الأولى من رواية «قوس قُزَح». وطبعاً أعادَ كِتابتها بالكامل في عام 1920. تقول «الضائعة»، «لن يتمكنوا من المغادرة إلى إيطاليا إلاّ في أوائل شهر تشرين ثاني»، وفي شهر تشرين ثاني من عام 1919 غادرَ لورانس إنكلترا، في حركة نفي ذاتي وهو حزين. وخلال الحرب، وبسبب خِلاف بيروقراطي، طُرِدَ من كورنوال بتهمة الاشتباه بالتجسس – وشعر بحسرة ساخطة. فعندما تنظر ألفينا وهي في القارب في القنال خلفها إلى «الجروف الرمادية بلون الرماد، بلون الجثث» تشاهد بلدها للمرة الأخيرة كـ «تابوت طويل رمادي يغرقُ ببطء»، والقلب الذي انفطرَ بحبٍ وجحودٍ غاضبَين كان قلب لورانس. هو، «الرجل الضئيل الأشدّ إنكليزيّة»، اتَّهمه أهل بلده بالجاسوسية. ولم يستطع أبداً أنْ يغفر لهم هذا. ولِمَ يغفر؟ «يا لهم من حمقى!». ريتشارد ألدينغتُن
الضفة المظلمة رواية لـ خوسيه ماريا ميرينو ، إن رواية الضفة المظلمة تعتبر متحفاً يحتفظ ببقايا التألق الاستعماري الاسباني في أمريكا اللاتينية، مكان مثالي لبلبلة البطل، وإدخاله المنطقة المتاخمة لحدود اليقظة، رواية حول الذاكرة والحلم، حول تذكر ماض واستحضاره من خلال قصص حاضر يختلط فيه الواقعي بالمتخيل وب الذاكرة الطفولية في عتمة الأدغال وضيائها، حيث تشكل الأحلام رحلة نحو الأصول . بطل الضفة المظلمة يستغرق في التقاء كل هذه القصص في أعماقه، وتنتهي فترة إقامته في بلد أمريكي إلى اللقاء. في مكان من الذاكرة، بحكايات الطفولة القديمة، ويحمله المتخيل خلال رحلة نهرية عبر الأدغال إلى الضفة الأخرى حيث ينتهي وعي الحلم في التحول إلى رحلة نحو أصوله ، وفي اليوم الذي تؤرخه الرواية يشعر البطل كما لو أن الاستيقاظ قد مُنح له لأول مرة ، كما لو أنه خروج أولي من حلم غير متناهٍ كان غارقاً فيه منذ بداية الزمان ، ولأسباب يعجز عن سبر غورها. لذلك ارتاب في أن وراء المظهر الحقيقي لكل ما يحيط به في الزمان والجغرافية ، يمكن لتشابكات حلم متينة أن تكون آخذة بمحاصرته ، كهلوسات شاذة تقلب اتجاه الزمن وترمم بقايا زمن حي .
إنها قصة جنيات فلسفية كتبها، في "الطائر الأزرق" ماترلنك. فالطفلان تيلتيل وميتيل لا يخوضان، في بحثهما عن الطائر السحري، مغامرة الحكايات العادية إنهما لا يواجهان الغول والتنين وخبث الجنيات أو مكر الأشياء المسحورة، تستغرقهما مغامرة أخلاقية. تعلم الحكمة. إنهما يتجولان عبر كيانات ومجازات، ومغامرتهما الطفلية تتبع ما يشبه خريطة الحنان الميتافيزقي، وما يمكن أن نسميه منظومة موريس ماترلنك، تصوره الخاص للعالم والحياة، لم يعبر عنه، احتمالاً، بهذا الحزم في غير هذه المسرحية الرقيقة والمألوفة التي يمكن أن تنبهر بها عينا طفل. وموريس ماترلنك حاز على جائزة نوبل للآداب للعام 1911.
كان د.هـ لورنس صغيراً جداً ومغموراً جداً عندما باشر بكتابة المسوّدة الأولى لهذا الكتاب في خريف عام 1906. كان حينئذٍ في جامعة نوتنغهام يقضي دورة إعدادية مدتها عامان لكي ينال شهادته كمُدرِّس للمرحلة الابتدائية. كان قد التحق بالجامعة بجهوده الخاصة، ذلك أنَّ والده، عامل المنجم ذو الأطفال الخمسة، لم يكن
عنوان الكتاب هو طقوس يومية، ولكنني ركزت في الحقيقة، أثناء كتابته، على الرّوتين الإنساني. هذه العبارة تتضمّن شيئاً طبيعياً ومتداولاً، بما في ذلك حضور فكريّ: فاتّباع روتين يعني من ضمن ما يعني تحريك المرشد الآليّ. لكن روتيننا اليوميّ هو في حدّ ذاته اختيار، أيضاً، أو سلسلة من الاختيارات. يمكن أن تصبح، ف ي الأيادي المناسبة، آلية معيار مرهفة من أجل استثمار مجموعة من الموارد المحدودة: الزّمن (أكثر الموارد محدودية)، وكذلك قوّة الإرادة، الانضباط الذاتيّ، التفاؤل. إن روتيناً متيناً يولّد بيئة مبتذلة بالنسبة لطاقاتنا العقلية، ويساعدنا على تجنّب استبداد تقلّبات المزاج. كان هذا أحد الموضوعات المفضّلة عند وليام جيمس. فهو يعتقد أن المرء يرغب في أن يكون جزءاً من الحياة بشكل تلقائيّ؛ وبابتكار عادات طيبة، يقول: يمكننا «أن نحرّر عقولنا لكي نمرّ إلى حقول الفعل ذات الأهميّة الحقيقية». ومن المفارقات الساخرة أن يكون جيمس نفسه من أولئك الأشخاص المشتّتين الذين يؤجّلون الأعمال إلى وقت متأخّر، عاجزاً عن الحفاظ على جدول زمنيّ منتظم.
تدور احداث هذه الرواية في احدى دول اوروبا الشرقية في الفترة التي تلت هزيمة النازيين في ستالينغراد وانسحابهم امام الجيش السوفييتي الذي عزم على مطاردتهم حتى برلين… ومن الخنادق مباشرة.
قلت لها : اعتمري قبعة على رأسك في البرد ، وإلا فستتجمد أذناك . انظري ، قلت ، كم من المارة الآن يمشون من دون آذان . فقبلت ، نعم ، نعم يقولون ، ينبغي فعل ذلك ، لكنها لم تعتمر . ضحك على النكتة واستمرت في السير من دون قبعة . خطرت هذه الصورة في ذاكرتي ، على الرغم من أنني لا أعلم عمن يجري الكلام هنا . أو، لنفترض ، تذکرت فضيحة - بشعة ومرهقة . ليس من الواضح أين نشبت . من المؤسف أن الحوار بدأ بشكل جيد ، ويمكن القول ، بحسن نية ، ومن ثم كلمة بعد كلمة تشاجرنا . الشيء المهم هو أنّي فيما بعد استغربت - لماذا حدث ذلك ، ومن أجل أي شيء ؟ لقد ذكر أحدهم أنه يحدث غالبا في المأتمية ( وليمة تأبين المتوفي ) : لمدة ساعة ونصف الساعة يتحدث الحاضرون عن كيف كان المتوفي شخصا صالحاً . ثم يتذكر أحد الموجودين أن المرحوم کا تبين ، ليس طيباً فقط . وبعد ذلك ، کا لو أن أمراً جاءهم ، يبدأ الكثيرون بالتعبير عن آرائهم ليضيفوا لما قال - وشيئا فشيئا يتوصلون إلى استنتاج مفاده أن المرحوم كان ، في الواقع ، سافلاً " من الدرجة الأولى . أو مشهد خارق للطبيعة إلى حد بعيد : ضرب أحدهم بقطعة من النقانق على رأسه ، وإذا بهذا الشخص يتدحرج على سطح مائل ولا يستطيع أن يتوقف ، ومن جراء هذه الدحرجة يدور رأسه ... رأسي يدور . أنا مستلق على سرير . أين أنا ؟ أسمع خطوات . جاء شخص مجهول يرتدي مريولاً أبيض . وقف ، وبعد أن وضع يده على شفتيه نظر إليّ (في فجوة الباب ثمة رأس شخص ما ) . وفي المقابل ، نظرت إليه - وكأني لم أفتح عيني ، من تحت رموشي شبه المغمضة . وقد لاحظ ارتعاش رموشي .
رواية باكستانية عن الحرب والسياسة تميّز الكاتب بالتقاط فظاعة الحرب وما يترتب عليها من حقائق بغيضة. أظهر براعته من خلال دمج قصة الحرب ومأساتها بمجريات ووقائع حياته، فجاءت الرواية أشبه بسيرة ذاتية غير مُعلنة للكاتب.