خوفه من الجلوس بمكان عام، مع فتاة وهو ابن رجل دين، لم يمنحها منفذاً غير شقة صديقه التي اقترحها هو، ما إن خطت قدماها داخل الشقة حتى أيقنت ملكيته لها، قميص ارتداه يوم أمس، قنينة مشروب روحي، فارغة، كأسان متسخان أحدهما مزين بلون شفاه عند حوافه، حملت الكأس بين يديها، شعرت أن الدم قد هجر عروقها، بدأت بالص راخ: - تتحدثون عن الدين، تدرس فلسفته صباحاً، تجادل به، يخرج والدك ليأمرنا بالمعروف، وينهانا على المنكر، طبعا فهو يود أن يدخره لولده الوحيد، وكر رذيلة، تدخلني وكر رذيلة يا زاهد.
"هكذا تم اللقاء القدري وبدأت قصتي أنا مع هذه الحكاية .. حملت إليّ المرأة هذه الأوراق قائلة إنها تلقتها بالبريد من جارها، بعد انتقاله من شقته. لم يكتب الفتى عنواناً ولم يقل أي شيء في رسالته التوضيحية غير التحية وهذه الكلمات. اسمحي لي يا جارتي الطيبة أن أبعث بأوراقي هذه إليك. لقد أتممت كتابتها وانتهيت منها، وأكملت يد أُخرى مراجعتها وتشذيبها قبل انتقالي من الشقة وأنا لا أريد أن أعود اليها بعد تنقيحها هي فأغيّر وأبّدل ما كتب قد كتب كما تقول الأمثال أو الكتب القديمة ! لم أعد أتذكر أين قرأت هذه العبارة! وصدقيني يا سيدتي إن بقاء هذه الأوراق قريبة مني يسبب لي، إضافة إلى رغبتي بتجميل أسلوبها مزيداً من الأسى والحزن الشخصيين، ما لا أحتمله فقد أنهض من النوم أو عن المكتب فجأة وأمزق هذه الأوراق.. لا لشيء إلا لأنها السبب في إثارة أساي وحزني.. وأنا لا أود أن أمزق أوراقي هذه وأرميها، إنها جزء من حياتي كما يُقال في الكتب. وأنا لست كاتباً أديباً ، فما أنا غير مترجم! وصدقيني أيضاً إن هذه الأوراق لا تنطوي على شيء، مهما صغر، قد يسبب إحراجاً لك أو يمكن أن تخجلي منه، هي أوراق شخصية لا تعني أحداً سواي احتفظي بها يا سيدتي عندك، ودعيها نائمة في سلام، فإذا ضقت بها ذرعاً في يوم من الأيام أودعيها يداً أمينة.. وستأخذ طريقها المقدّر ساعة يُراد لها أن تأخذه ! وتذكري جاراً لن ينسى دفء يدك الصديقة! .
"ربيع أسود" هو الكتاب الثاني في الترتيب الزمني من بين مؤلفات هنري مللر. "مدار السرطان" كان الأول، وصدر في عام 1934، ثم "ربيع أسود" الذي صدر في عام 1936، وأخيراً "مدار الجدي" في عام 1939. الرمايات الثلاث تعبر ثلاثية بصورة ما. ف "مدار السرطان" يحكي فيه ميللر عن جوانب في حياته في مدينة نيويورك. و"مدار الجدي" تحدث فيه عن تجربته في مدينة باريس، خلال سنوات تسكعه ومحاولة إثبات ذاته كأديب. أما "ربيع أسود" فهو وسط بينهما. إنه ليس رواية بالمعنى التقليدي للكلمة، فهو ليس سرداً تقليدياً لجوانب من سيرته الشخصية، بل قصول وتفرقة يستعرض ميللرمن خلالها طاقته في الكتابة الإبداعية. إنها طاقة فريدة لا تشبه تجربة أي كاتب فبله، يكشف فيها عت قدرته على تحويل السيرة الذاتية إلى فصول شعرية غاضبة وساخرة مما يفعله المجتمع بمبدعه وعباقرته إذا لم يعوا أنفسهم ذاتياً ويعتمدوا على رعاية عبقريتهم بأنفسهم، وهكذا ينتهي الكتاب: بأنشودة يمجد فيها المبدع ذاته الواعية واعتماده على نفسه في إبرازها ورعايتها: إذا لم تعي ذاتك المبدعة وترعاها فلن يتعرف عليها أحد أو يرعاها.
كان شَعرُ آيّان ماني الأسودُ الكثيف ممشّطاً إلى الجانبين، ومفروقاً بإهمال بخطّ متعرّج يشبه الحدود التي اعتاد البريطانيّون رسمها بين جارَين عدوَّين. عيناه متوقّدتان واثقتان وشاربه المشذّب يخبّئ ابتسامة دائمة. رجل أسود مرتّبٌ لكنّه رخيصٌ بشكل ما أو بآخر. تأمّل الناسَ الذين يسيرون في الغسق، هناك المئات منهم على الكورنيش الإسمنتيّ الطويل الممتدّ بمحاذاة بحر العرب. نساءٌ وحيداتٌ ينتعلن أحذية جيّدة ويمشين بسرعة كأنّهنّ هارباتٌ من قدرهنّ بأن يشبهن أمّهاتهنّ، أثداؤهنّ الفخورة تتقافز، أفخاذهنّ الطريّة تهتزّ مع كلّ خطوة، وجوههنّ المتعبة – وجوه نساء من الطبقات العليا، فاتحة للغاية وتلمع بالعرق – مكشّرة بسبب الجهد. تخيّلهنّ آيّان جميعاً منتشياتٍ بإغوائه لهنّ. بينهنّ، كما حزرَ، فتيات لم يمارسن الرياضة أبداً من قبل وجئن بعد خطوبة مفاجئة على عريس مناسب. خطواتهنّ طويلة جدّاً كأنّهنّ يقمن بقياس طول الساحل
"وزعم الصديق الشاب القديم أنه يسره أعظم السرور حقاً أن يرى فيشل من جديد، ومشكا فيشل من التطور الرديء للزمن ومن العمل الثقيل ومن إنحلال الأخلاق بصورة مطلقة قائلاً أن كل شيء قدبات مفرطاً في المادية والشرع، وردّ أو لريش قائلاً: "على أنني كنت أحسب للتوّ أن في وسعي أن أحسدك إذ لا بد لمهنة التاجر أن تكون مصحاً حقيقياً للنفس بلا ريب! فهي على الأقل المهنة الوحيدة ذات الأساس النظيف من الناحية النظرية، وأكد فيشل قائلاً: "إنها كذلك!"، وأضاف قائلاً بإكتئاب: "فالتاجر يخدم التقدم البشري ويكتفي بمنفعة مشروعة وهو يعاني في هذا السبيل معاناة مساوية لكل امرئ آخر على وجه الدقة!". وكان أولريش قد أعرب عن إستعداده لمرافقته إلى البيت، وحين وصلا إلى هناك وجدا جواً متوتراً إلى أقصى الحدود، كان قد حضر كل الأصدقاء، وكانت تدور رحى معركة كلامية كبرى، وكان هؤلاء الشباب ما زالوا يتردّدون على المدرسة الثانوية أو كانوا في الدورات الأولى من المعاهد العليا وكان بعضهم يقوم بوظيفة التجار. أما كيف التأمت حلقتهم فذلك ما لم يكونوا يعرفونه بعدهم أنفسهم فكان منهم من تعرف على الآخر في روابط الطلاب القومية، وآخرون في حركة الشباب الإشتراكية أو الكاثولوكية وفئة ثالثة ضمن طائفة من الجوالين، ولا يخطئ المرء تماماً حين يفترض أن القاسم المشترك بينهم جميعاً كان لوفيشل، وذلك أن الحركة الفكرية تحتاج إذا كان يراد لها أن تدوم إلى جسم، وكان هذا الجسم هو مسكن فيشل، بالإضافة إلى حاجتها إلى العناية وإلى قدر معيّن من ضبط حركة الإتصال عن طريق السيدة كليمنتينا، وكان ينتمي إلى هذا المسكن حيروا وإلى حيروا كان ينتمي هانز زيب الطالب المتسم بلون البشرة غير النقي، والروح الأكثر نقاءً، وما كان القائد في الحقيقة لأن الشباب لا يعترفون بقائد، غير أنه كان يمثل العاطفة الجامحة الأقوى بينهم، ولا ريب أنهم كانوا يليقون في أماكن أخرى أيضاً من حين إلى آخر، وكانت نسوة آخريات سوى جيروا يحللن ضيوفاً، ولكن بهذه الطريقة التي وصفت كان قد تم إنشاء نواة الحركة وعلى الرغم من كل ذلك، كان مما يلفت النظر إلى حدٍّ بعيد المكان الذي جاء منه روح هؤلاء الشباب مثلما يكون ظهور مرض جديد، أو مثلما يكون ظهور سلسلة طويلة من الإصابات في لعبة من ألعاب الحظ. فحين أخذت شمس المثالية الأوروبية القديمة تخبو، وأخذ الفكر الأبيض يشيع الظلام، أخذ كثير من المشاعر تتداوله بدٌ عن يد أخرى، مشاعر من الفكر والله تعالى يعلم من أين سرقت أو أين اخترعت 1-ويشكل هنا وهناك بحيرة النار المتراقصة علوّاً وإنخفاضاً في مجتمع فكري صغير. وهكذا، كان يدور الحديث في السنوات الأخيرة قبل أن تستخلص الحرب الكبرى الننتيجة من ذلك في كثير من الأحيان عن الحب والمجتمع أيضاً، وكان الشباب من المعادين للسامية في بيت مدير المصرف، نيشل، يحملون لواء الحب والمجتمع الشاملين لكل شيء، فالمجتمع الحق يمثل عمل شريعية داخلية وأعمق الشرائع وأبسطها وأكملها وأولها شريعة الحب... وبالطبع، فإن المرء لا يستطيع أن يحب كل إنسان، ولكنه يستطيع أن يكن الإحترام الشخصية كل امرئ ما دام يتسم بالطموح على أنه الإنسان الحق... الزمان هو القرن التاسع عشر والمكان أوروبا: النمسا وألمانيا، إنجلتره... يعكس الروائي المناخات التي كانت تسود في تلك الآونة التي شهدت فيها أوروبا ذلك التحول التاريخي، والذي شهدت فيه ثورات وإضطرابات نتيجة العوامل الإجتماعية... إنه الصراع بين الأرستقراطية والبرجوازية بين التدين والعلمانية... وبين الإنسان المتعالِ والإنسان المسحوق.
إن الكتابة عن الكسندر سيرغيفيتش بوشكين الملقب بأمير شعراء روسيا ليست بالمهمة اليسيرة فقد كتبت عنه مئات المجلدات ولهذا آثرت لدى كتابة مقدمة ترجمة أعماله النثرية عدم تناول سيرته وابداعه بالتحليل، وبدلا من ذلك قمت بترجمة مقالة صديقه نيقولاي غوغول عنه، التي تعطي صورة صادقة عن شخصية بوشكين كإنسان وشاعر و مواطن. أما القصص المترجمة فتعكس عبقرية بوشكين، فهو مثل غيره من كبار الشعراء أبدع في النثر بقدر لا يقل عن إبداعه في الشعر. وقد اخترت من بين الأعمال النثرية تلك التي لم تترجم بدقة سابقا وحيث سمح المترجمون لأنفسهم باطلاق العنان لأقلامهم في التصرف بأعمال بوشكين. كما أن بعض الأعمال النثرية قام بترجمتها من الروسية صديقاي المرحوم غائب طعمة فرمان وأبوبكر يوسف وراجعها مستعربون روس، فهي أصدق من غيرها من حيث المحتوى، ومنها ابنة الضابط ودوبروفسكي وقصص المرحوم ايفان بيلكين.ولهذا لم أترجمها مجددا.