في ذلك اليوم ذهب علي سلمان لمشاهدة تنفيذ أول عملية إعدام علنية في مدينة الثورة. عندما نهض من نومه كان الفجر يتسرب من نافذة الغرفة المطلة على شارع فرعي في منطقة الداخل فيلقي أشعة شفافة نقية على أمه مكية الحسن وأخته مديحة سلمان النائمتين على الأرض قريباً من فراشه. خطا بجوار أمه فتحركت. رفعت رأسها قليل اً عن الوسادة ثم أراحته على طرفها. وبعينين نصف مغمضتين رأت الضوء يملأ فضاء الدار المفتوح على قبة السماء عبر الباب الذي فتحه ابنها في طريقه إلى الحوش. غسل وجهه وعاد إلى الغرفة ليرتدي ملابسه. خُيِّل لها، في ظلال النعاس الرطب الناعم الذي يثقل أجفانها، إنه يستعد للذهاب إلى العمل، فهذا هو الوقت الذي يتوجه فيه عمال البناء إلى أشغالهم في مناطق مختلفة من بغداد.
يقدم هذا الكتاب صوراً من الغوايات العاطفية الخاصة في تجاوزات المألوف، في تفاصيلها الدقيقة، حينما تشكل طقساً، من التشويق والغرابة، في حبكة روائية مثيرة.
أعادت إلي هذه الرسائل/النصوص، وأنا أوشك أن أدفع بها للنشر، فصولاً حياتية تقاسمت غالبية وقائعها مع كاتبها الملهم الأستاذ والمفكر التنويري كامل شياع (1954–2008). وحين أستعيدها اليوم، أجدني أتعثر بكم هائل من الذكريات مع شقيق الروح، إن كان في شطرها الأول الذي قارب ربع قرن من الزمن، في أرض الوطن، أو مثل عدد سنواتها تقريباً في الأرض الغريبة المسماة «المنفى». والشطر الثاني هو ما تتوقف عنده هذه النصوص البليغة، إذ إنها كتبت في المنفى وعن المنفى. وهو ما حرصت على توثيقه وحمله معي أينما حللت، وقد مثل لي في حقيقته زوادة معرفية ودليل مسار في رحلتنا الغريبة.وبين الرحيل الاضطراري عن الوطن الأول والعودة إليه، تراكمت أوراق هذا الدفتر على شكل سيرة يوميات لقاموس المنفى، أو هي أقرب إلى نصوص المذكرات الشخصية المبكرة، كما يصفها صاحبها. فحين تتقطع بك سبل التواصل الحميم مع أبناء الوطن، من أهل وأصدقاء، وأنت مشدود إلى قدرك المجهول، وما يرافق ذلك من بخل الحياة الجديدة؛ لا يبقى للمنفي سوى كلمات يتبادلها مع أقرانه عن بعد في تيه فرض إلزامات وشروط حياتية لم نكن نحسن بعد تدبر الكثير من أبجدياتها. ولعل ما تبادلناه نحن الأصدقاء من رسائل بوح، وقتها، هو في حقيقته تعويض، أقرب إلى المسكنات، لمرارات لم تبق على سطح لسان المنفي ولا في سريرة قلبه بشرى ترقص لها الروح أو مزحة تعيد له الارتباط بتلقائية حياة العائلة/الوطن.
هذه الرواية سيرة ذاتية في جزء منها ورواية ملحمية في جزئها الآخر، إنها قصة متعددة الطبقات بدءاً بالعام 1903، وإثر موت والدته. أما والده، وهو صناعي غني، فقد انتحر جراء التأثير المحبط الذي مارسه محاميه كوماروفسكي، والرواية تجمع فن الطب والعلاقات العائلية والحب والسرد في مقابل الخبرة والثورة والمجتمع والحرب
كان مستر "أترسون" المحامي ذا وجه عبوس لم تشرق عليه ابتسامة أبدًا، فاترًا، قليل الكلام، مترددًا في الحديث، رجعي التفكير، كما كان نحيلًا، طويل القامة مترب الثياب كئيبًا، ورغم ذلك كان فيه جاذبية. فعندما يجتمع الأصدقاء، ويكون النبيذ موافقًا لمزاجه، تضيء في عينيه شعلة من الشعور الإنساني، وهذا شيء لا يظهر مطلقًا في حديثه إلا أنه ينطق في هذا الرمز الصامت من وجهه فيما بعد الغذاء. يبدو كثيرًا وبوضوح أكبر في تصرفاته بالحياة، فكان شديدًا في معاملة نفسه، يشرب خمر "الجن" إذا ما خلا إليه، كي يقاوم رغبته في النبيذ وحبه له، يحب المسرح ولكنه لم يطأ أبواب مسرح منذ عشرين سنة، على أنه يحتمل نقائص الآخرين راضيًّا عنهم، دهشًا في بعض الأحيان، فيما يشبه الحسد، لما يظهر من روح النشاط في سيئاتهم
عاشت أناييس نن حياتها كما تكتب. وفي باريس كما في الولايات المتحدة كان لها حضور طاغ في الكتابة والحب والأفكار والمذكرات الغنية بالتجارب والكتابة الروائية وهذه أهم رواياتها المفتوحة على أشكال الحب والحياة. يتحدث الأستاذ محمد صويلح عن رواية «دلتا فينوس»،حيث يرى أن أناييس نين في روايتها تقتحم عالماً سرّياً وتضيئه من الداخل، باستسلام الراوية للنزوات والأهواء والرغبات. وتكشف عن شخصيات تتحكم بحياتها الشهوانية، وتحكي عن اقتناص لحظات اللذة أينما كانت، في الأسرّة وتحت الجسور، في الشوارع المظلمة وفي القصور. صحيح أنّ نين كتبت هذه القصص تحت ضغط الحاجة إلى المال، لكنّها دشّنت نوعاً أدبياً نسوياً، ستقتحمه أخريات بعد عقود بوصفه ملاذاً لحرية كانت مفتقدة ومحرّمة، وعفّة فرضتها القيم الاجتماعية الصارمة. لعل الكتابات الأنثوية العربية اليوم، في تجرُّئها على المحظور، تدين بالكثير إلى تلك الأديبة الجريئة التي سبقت عصرها، كاشفة عن احتدامات الجسد المشتعل وانفعالاته من دون وجل. هناك مسافة نصف قرن بين مكاشفات أناييس نين والتمارين الإيروتيكية العربية التي تُحاكم بقسوة، تحت بند خدش الحياء العام. لعلها فرصة للمقارنة؟"