"هل سبق لك أن التقطت كتاباً من أحد متاجر الكتب المستعملة وحصلت منه على إيصال ما، أو اكتشفت رقم هاتف مكتوباً على ورقة غافية بين طياته، أو قرأت نقشاً عن مشاعر دافئة لشخص لم تصله؟ هل جعلك تتساءل عن حياة أولئك الذين قلبوا تلك الصفحات قبلك؟".
تتعرف من خلال قصص هذا الكاتب المبدع على وصف دقيق للمجتمع الأمريكي وخصوصاً الطبقات الدنيا من هذا المجتمع في فترة أواخر القرن التاسع عشر. يسلط الكاتب الضوء على حالات إنسانية عميقة ومؤثرة، وأعتقد أن السمة المشتركة بين القصص المختارة في هذه المجموعة هي عنصر التضحية والفداء والبطولة والشهامة التي يتمتع بها أبطال هذه القصص.
مرة أخرى أجد نفسي مأخوذاً بحدث يدفعني خارج التتابع المألوف لدورة الأشياء. بل وخارج حدود المعقولية القائمة على افتراض وجود تطابق لا مفر منه بين تمفصل الواقع وتمفصل الفكر. ما أجابهه هنا هو اكتشافي حضوراً تفرضه المفاجأة غالباً، تعجز الأسباب الفعلية أو المفترضة التي في حوزتي عن إيقاف مشاعر القلق واللايقين في ازاءه . ما أجربه هنا – يبدو أقرب الى مايسمى بالوعي الشقي، أي ذلك الوعي الذي يرى سلبيته او عدميته عبر إدراكه ان ما يهدف الى إمتلاكه هو في الحقيقة منفصل عنه دائماً. ولكن ما هذا الحدث القادرعلى خلخة يقين (أوعادة) ربط الأشياء ببعضها وتوقع احتمالاتها المستقبلية، الحدث الذي يحث على الذهاب أبعد قليلاً او كثيراً من مجال التحديات الفعلية أو المفترضة؟ انه من النوع الذي يمس، وان بدرجات مختلفة، كل واحد منا، كرؤية صورة انسان مختلف او كتاب ذي مؤلف وتاريخ مجهولين أو ربما لوحةً فنية لا نستطيع الجزم ان كانت حقيقية أو مزورة. لنتوقف هنا عند المثال الأول، فصورة انسان مختلف، كما نظن، ليست صورة ككل الصور. فهي عندما تعلن مثلاً إختفاء صبية ما – لاتوضع إلا في الأماكن العامة – تستوقفني لأتمعن في ملامحها، لأقرأ أوصافها، … انها تدعوني دعوة مفتوحة الى المساعدة وتستفز في شعور تضامن لا أعرف كيف أقدمه ولمن. ولكن أهم من هذا كله أن هذه الصورة تتحدى قدرتي على تصنيف معطياتها. فهل لي ان أضعها في عالم الصور وهي المشدودة الى أصلها بعلاقة متوترة لا تصف ولا تكرر بل تستغيث؟ أو هل لي ان أضعها في عالم الواقع وواقعها (أصلها) محكوم بتحديد ناقص، تأجيل قسري بين الحضور التام والغياب التام؟ في الحالة الأولى لا تنقل الصورة الا ما لا تستطيع نقله: إختفاء غير طبيعي وغير منتظر. فعلى رغم تكراره بين حين وآخر في حالات مجهولي المصير في الحرب او المختطقين لأسباب سياسية أو اجرامية، فإنه – اي الإختفاء – يظل شاذاً لا يغري احداً بتعايش مريح معه. والأكثر من هذا انه لا يسمح بامتلاكه معرفياً ولا بتجاهله على رغم انه حادث في هذا العالم ومن هذا العالم. فعندما أحاول معرفته – لأجمع معلومات عنه – أجد نفسي مستدرجاً في فائض من الإحتمالات والتقابلات غير القابلة للحسم. وعندما أحاول تجاهله، بعد خيبة المعرفة عادة – أكتشف جهلي به. لا تجاهل مع الجهل! أما في الحالة الثانية فإن الصورة تشعرني بنوع من غياب مختلف عن ذلك الذي يتحدد عبر تناقضه مع الحضور، كما يتحدد الموت من خلال الحياة مثلاً. فإذا أخذنا بالفكرة القائلة ان وجود الشيء يعتمد على إمكانية تحديده فإن أصل الصورة يحيلني الى أمر حدث ويحدث ولكن ليس في وسعي تحديده… الثالث المرفوع كما يقال في علم المنطق. ومبدأ التحديد هذا هو، في المناسبة، مبدأ ضروري ليس للوجود فقط بل للمعرفة أيضاً على رغم وجاهة بعض الإعتراضات التي يثيرها ضده دعاة التفكير النسبي المعاصرين من شكاكين وسفسطائيين. المهم هنا هو عدم تجييره لصالح أنطولوجيا حتمية، مثالية كانت أم مادية.
هي حكاية "فيتا ساكفيل ويست"، عشيقة فرجينيا بين أعوام 1925 إلى 1928؛ التي كانت روائية بوهيمية، أرستقراطية، ثنائية الجنس، لدرجة أن هناك عبارة تختزل الرواية إلى حد كبير على لسان نجل ساكفيل، بأنها: "أطول رسالة حبّ في الأدب، وأكثرها سحرًا". من الصعب الحكي عن رواية كتلك في سطور قصيرة، لكن يمكن القول إنها رواية ممتدة لزمن طويل يصل حوالي ستمائة عام. حكاية أورلاندو التي تبدو إنسان خالد، وُلدت ذكر، طفل وصبي وشاب، من أجمل الشباب الذين عاشوا في تلك الحقبة حتى أن الملكة فقدت أعصابها في حضوره واتخذته عشيقا صغيرا لها. يؤلمه الحب ويدمي قلبه فينعزل طويلا قبل أن يتحول فجأة إلى شابة جميلة. تتغير حياته بأكملها وتنطلق أورلاندو في كل مكان، تجرب كل شيء، تكتب وتنشر وتعيش مع الغجر وترتدي الفساتين والسراويل وتركب السفن والأحصنة والسيارات. حياتها الطويلة الممتدة عبر العصور وهي فقط في الخامسة والثلاثين من عمرها، تتأرجح بذكاء على أجنحة الأنظمة والاختراعات الحديثة بينما تدير أملاكها وتحب وتعشق وتعد نفسها لزواج سعيد. ليس الحديث هنا عن المرأة أو عن النسوية وأسئلة الهوية الجنسية والجندرية، رغم أن الرواية حافلة بهذه الأسئلة، التي قد تبدو كلاسيكية في نظر المجتمع الغربي، وإن كنا لا نزال بحاجة إلى طرحها في ثقافتنا العربية، بسبب قوانين الزمن الغريبة، والتي تقول عنها وولف في هذه الرواية: "لكن لسوء الحظ فإن الزمان، رغم أثره على الحيوانات والنباتات التي تزهر أو تذبل، لا يمتلك القدرة ذاتها على العقل البشري. عقل الإنسان عجيب، يؤثر بدوره على جسد الزمان. ساعة زمن، بمجرد أن تسكن الروح البشرية الملغزة، قد تصير خمسين أو مائة ضعفًا، ومن الممكن لنفس الساعة أن تمر على العقل البشري كثانية واحدة". هذه القوانين الغريبة للزمان، والتي تعد من تقنيات هذه الرواية، هي التي تجعلنا لا بد أن نقرأ الأسئلة السابق ذكرها؛ لأن ساعة الزمن أيضًا حين تسكن المجتمعات، فإن أمرها يختلف من مجتمع إلى آخر، وقد تمضي بهذا المجتمع أسرع أو أبطأ.
وُلد إيفان تورغينيف في 28 تشرين الأول (9 تشرين الثاني في التقويم الجديد) عام 1818 في مدينة أوريول. وكان أبوه سيرغي نيقولايفيتش يخدم في فوج يلزافيتغراد الذي كان يرابط في أوريول، وتقاعد برتبة عقيد. وأمّه فارفارا بتروفنا، من مواليد لوتوفينوف. وكان إيفان سيرغييفيتش الابن الأوسط من ثلاثة أبناء. والأخ الأصغر توفي في ريعان الصبا، والأكبر يعيش في موسكو. فقَدَ تورغينيف أباه، وهو في السابعة عشرة، إلا أنّ أمّه عاشت حتى بلغت السبعين، وتوفيت عام 1850. في عام 1822 سافرت عائلة تورغينيف إلى الخارج، وزارت، فيما زارت، سويسرا. وأثناء إحدى الزيارات كاد إيفان الطفل ، وهو في الرابعة من العمر، يقع في حفرة الدببة الشهيرة في برن، وربما كان سيدفع ثمناً غالياً لتهاونه، لو لم يفلح أبوه في إخراجه فوراً من هناك. وبعد العودة إلى الوطن أقامت العائلة فترة طويلة في ضيعتها، في قضاء متسينسك من ولاية أوريول. وفيها بدأ تورغينيف يتعلّم على أيدي أساتذة من مختلف القوميات ما عدا الروسية. ومن أوائل الكتب الروسية التي قرأها «روسيادا» لمؤلفه خيراسكوف. وهو مدين بتعرفه على هذا الكتاب إلى واحد من أقنان أمه، كان شغوفاً جداً بالشعر. وفي عام 1828 انتقل إيفان تورغينيف مع والديه إلى موسكو، وفي عام 1834 دخل جامعة موسكو، حيث أنهاها بأطوحة «مرشح». وفي عام 1838 سافر إلى الخارج، وكاد يودى به بحريق شب على الباخرة «نيقولاي الأول» قرب ترافيميونده. وحضر تورغينيف في برلين محاضرات في التاريخ واللّغتين اللاتينية واليونانية وفلسفة هيغل.
في تلك الليلة ونحن نتناول العشاء، جلستُ ما بين عبارات بابا وماما «نحن فخوران بكِ جدّاً » و «إنّها ذكيّة »، إلى أن ساد الصمت. «تعرفان ماذا يعني هذا »قلتُ، «الأمر الكبير الذي يعنيه ». عبس بابا وماما، وألقى كلّ منهما إشارات الاستفهام صوب الآخر. «ألا تتذكّران؟ » قلتُ، «عندما بدأتُ الدراسة في غايلر ستريت قلتما إنّني لو حصلتُ على علامات تامّة في جميع الموادّ طوال فترة الدراسة، يمكنني الحصول على أيّ شيء أرغب به كهديّة تخرّج» . «أتذكّر » قالت ماما. «لقد كان ذلك من أجل صرف انتباهك عن موضوع المُهر» . «المهر هو ما أردتُه عندما كنتُ صغيرة، أنا أريد شيئاً مختلفاً الآن. ألا تشعران بالفضول لمعرفته؟ »، قلتُ. «لستُ متأكّداً » أجاب بابا، «هل نشعر بالفضول؟ ». «رحلة عائليّة إلى القارّة القطبيّة الجنوبيّة! »، وسحبتُ البروشور الذي كنتُ جالسة عليه. إنّه بروشور من شركة سياحة تنظّم رحلات بحريّة إلى أماكن بعيدة. فتحته على صفحة القارّة القطبيّة الجنوبيّة، ومددته عبر الطاولة. «يجب أن نسافر خلال الكريسماس إن كنّا سنذهب ». «الكريسماس هذا؟! » سألت ماما، «أي بعد شهر؟ » ثمّ نهضت، وأخذت تحشر علب الطعام الجاهز الفارغة في الأكياس التي وصلت بها. كان بابا مستغرقاً في قراءة البروشور، «إنّه الصيف هناك » قال، «وهو الوقتُ الوحيد الذي يمكن الذهاب فيه .» «الأمهار ظريفة »، عقدت ماما فوهات الأكياس. «ما رأيكِ؟ » نظر بابا إلى ماما. «أليس التوقيت سيّئاً بالنسبة لكَ بسبب العمل؟»، سألتْه. «نحن ندرس القارّة القطبيّة الجنوبيّة» قلتُ، «لقد قرأتُ كلّ يوميّات المستكشفين، وسأقدّم عرضاً عن شاكلْتن». بدأتُ أتلوّى في مقعدي ثمّ قلتُ: «لا أصدّق هذا! لا أحد منكما قال: لا!».
في هذا الكتاب من سلسلة "مكتبة نوبل" باقة مختارة من قصائد الكاتب السويدي "هاري مارتينسون" حيث تم اختيارها من ستة دواوين شعرية مختلفة "لمارتينسون"، وما يميزها أنها تتحلى بطلق لغوي، بهي مثير، وتنزلق ووفق سجية مفرداتها، مثل سفينة تمخر عباب بحر هادئ، وتشعر أن الأشياء حية ومرنة وعطرة مثل عشب ينام تحت الماء. قصائده في اللغة السويدية تذكر قليلاً بشعر لورانس في "الزهور البافارية" أو ببعض مقاطع ويتمان عن بومونك التي تشبه السمكة.