في نسيج متفرد، لغة وموضوعاً، تكتب جورجين أيوب نفسها، روحها المتحفزةن وطنها، عالمها، يطاوعها القلم، في مزاوجة الشعر والسرد الروائي والمشهد المسرحي، وتكسر الحواجز، لتخرج على التصنيف وتقول ما تشعر وما تريد، بحرارة، وحس يتجاوز المحنة الماضية، والحاضرة، بانفلات أنيق من المألوف، لصالح البوح الصافي، عن الوجوه وظلالها، والذات التي تقول في كل سطر: أنا جورجين أيوب.
ي قلبِ مكسيكو سيتي امرأة، عالقة في بيتٍ وفي زواجٍ ليس بمقدورها السَّكن إليه ولا التخلّي عنه، تفكّرُ بماضيها. تقرّرُ كتابة رواية عن أيّامها السّالفة في دار نشرٍ في مدينة نيويورك، وعن الغرباء الذين أصبحوا عشّاقاً، وعن الأشباح والشعراء الذين سَكنوا حيّها. وتكتبُ على وجه الخصوص عن هوسها، في شبابها، بشا عرٍ مكسيكيّ مغمور من عشرينيات القرن العشرين، يُدعى جيلبرتو أوين، وهو شخصية هامشيّة من «عصر نهضة هارلم»، ومتجوّل على أرصفة مترو الأنفاق في مانهاتن، وصديق وخصيم لفيديريكو غارسيا لوركا. أثناء كتابتها يعود جيلبرتو للحياة على الورق: رجل وحيدٌ مجهول يعيش على هامش أوساط الكتابة والشرب في هارلم، إبانَ بدء «الكساد الكبير»، وهو أيضاً مسكونٌ بطيفِ امرأة في معطفٍ أحمر تسافرُ في قطار الأنفاق في نيويورك. كأنّ كلّ قصّة صَدى الأخرى. من منهما يتخيّلُ الآخر؟ أتراهما شبحين يبحثان عن سبيلٍ للعودة إلى الواقع؟ في مرايا متبادلة مشوّهة، يتشابكُ الواقعيُّ والمتخيّلُ والذكريات، وتقترنُ حياتيهما معاً عبر العقود، مشكّلينَ بذلك مرثيّة منفردة عن الحبّ والخسران. *** في محطة المترو أطيافُ هذه الوجوهُ في الزّحام بتلاتُ زهرٍ على غصنٍ نديٍّ أسود..
الكلام ليس عن همسة خائفة في العتمة... الكلام هو عن النهار والنوافذ المشرعة... وعن الهواء الطازج... وعن موقد يحرقون فيه أشياء غير مجدية... وعن ارض حبلى بمزروع آخر... وعن الولادة والتكامل والفخر... الكلام هو عن أيدينا العاشقة... التي نصبت جسراً من بشارة... العطر والنور والنسيم... فوق الليالي.
في أول لقاء لي مع بريندا طلَبَتْ مني أنْ أحمل نظاراتها. ثم تقدَّمتْ من حافّة لوح الغطس ونظرتْ بارتباك إلى البركة؛ لم يكن في استطاعة بريندا حسيرة النظر أنْ تعلم إنْ كانت مُفرَغَة من الماء. غطستْ بأداءٍ جميل، وبعد لحظة عادتْ إلى جانب البركة، ورأسها ذو الشعر الأصحر المقصوص قصيراً مرفوع، يتقدّمها مباشرة ، وكأنّه وردة على ساق طويلة. انسابتْ نحو الحافّة وأصبحتْ إلى جواري. قالتْ، وعيناها مُبلّلتان وكأنّما ليس من الماء، «شكراً لك ». مدَّتْ إحدى يديها لتتناول نظاراتها لكنها لم تضعها إلا بعد أنْ استدارتْ وابتعدتْ. راقبتها تبتعد. وفجأة ظهرت يداها خلفها. أمسكت أسفل رداء الاستحمام بين الإبهام والسبّابة وربتتْ برفق على ما برز من اللحم وأعادته إلى مكانه. وغلى دمي. في تلك الليلة، وقبل العشاء، اتصلتُ بها. سألتني عمّتي غلاديس «بمَنْ تتّصل؟ »
في خريف 1989 ، وبينما كان إعصارٌ عاتٍ يضرب هافانا، انتهى الملازم ماريو كونده من آخر قضيّة له في قسم التحقيقات. كان قد اتخذ قراره بترك العمل في الشرطة والتفرّغ للكتابة. قدّم استقالته يوم أتمّ السادسة والثلاثين. يومها بلغه خبرُ عزم أحد أصدقائه القدامى على مغادرة كوبا إلى غير رجعة، وقد أشرتُ إلى مغامرة ماريو كونده الأخيرة هذه في رواية منظر خريفي، وهي الأخيرةُ في سلسلة «الفصول الأربعة »، التي كتبتُها ونشرتُها بين عامي 1990 و 1997 ، والتي ضمّت أيضا روايات «ماض تام » و «رياح الصوم الكبير » و «أقنعة .» قررتُ، إذن، أن أمنح ماريو كونده إجازة لوقت بدا لي أنّه سيطول، وبدأتُ بكتابة رواية لم أشركْه فيها. في تلك الأثناء، اتصل بي ناشرو كتبي البرازيليون، وسألوني إن كنتُ راغباً في المشاركة في سلسلة يعتزمون إصدارها تحت عنوان «أدبٌ أو موت »، وطلبوا منّي أن أخبرهم، في حال موافقتي، عن اسم الأديب الذي ستدور حوله حكايتي. وصادفتْ فكرة البرازيليين قبولاً في نفسي. أمّا الأديبُ الذي وقع عليه اختياري فهو إرنست همنغوي، الذي كانت لي معه، ولسنوات، علاقة غريبة، هي مزيج من حُبّ ونفور. لم يخطر ببالي، حين فكّرتُ في تناول موقفي الشخصي من مؤلف «حفلة »، غير أن أرمي بأحاسيسي وهواجسي على عاتق ماريو كونده – كما فعلتُ مرات ومرات–، وأجعلَ منه – كما فعلتُ مرات ومرّات– بطلَ الحكاية. فكّرت أن أبني أحداث هذه الرواية على علاقة مزعومة بين همنغوي وكونده، نشأت إثرَ اكتشاف جثة دفنت في مزرعة المؤلف الأمريكي في هافانا. هنا أجدُ لزاماً عليّ أن أنبّه إلى وجوب ألا تخرجَ الرواية عن نطاق صفتها ووصفها، كيفما قُرئت، ومن أيّة زاوية رُصدت: فما ستقرأون محضُ رواية، حكايةٌ صِرف، بل لقد أضفتُ على الكثير من أحداثها، بما فيها التي استقيتها من أصحّ الوقائع وأدقّ التواريخ، من خيالي إلى درجة أنّي ما عدتُ أدري أين تنتهي ريشة المروحة اليدوية هذه وأين تبدأ تلك. مع ذلك، وعلى الرغم من أنّني أبقيتُ على بعض الشخوص أسماءها الحقيقيّة، فقد أعدتُ تسمية أخرى تجنّباً لحساسيات محتملة، لذلك امتزجت شخصياتُ الواقع بشخوص الخيال، في أرض لا حكم فيها إلا لقواعد الرواية ولا كلمة فيها إلا لزمانها. وعليه، فهمنغوَي هذه الرواية همنغوَي مصطنع، مصنوع، لأنّ القصّة التي سنراه فيها من نسج خيالي، بل لقد استعنتُ فيها بالإجازات الشعريّة وأساليب ما بعد الحداثة، واستخدمتُ فقراتٍ من أعماله ومقابلاته لنسج أحداث الليلة الليلاء، ليلة الثاني على الثالث من أكتوبر 1958
"سيدوري تسألها الشمس "هل بقيت في الكأس ثمالة "وهل فجرُ يطلع من أمس؟ "رجل في غابات الموت "يحمل غصناً من زيتون "فأحالوه الى مجنون "سنبلة الضوء بدت تقلق "رقصت في كل مفاتنها "رقصت طرباً كي لا تغرق.