ألقت برأسها إلى الخلف، ورفعت ذراعيها. كانت تجلس على الرصيف، تتمطى مقوسة جسدها. جالت بنظرها على المنظر الطبيعي الممتد أمامها. كانت المياه ما تزال عكرة قليلاً بسبب مخلفات الشتاء، في النهر الذي يتسع أثناء مروره أمام المزرعة، تتوزع في منتصفه، جزر صغيرة مغطاة بالنباتات وأشجار النخيل والشجيرات والقصب التي تعطي انطباعاً عن المسار الذي فتحته الأشجار للانتقال إلى الجانب الآخر. كانت تضفي نباتات المانغروف الكثيفة بأوراقها الملتفة وجذوعها، وسيقانها الكثيرة، في ذلك الوقت من الصباح، أجواءً بيضاء وغامضة من سماء قريبة من الأرض. على الضفة المقابلة، على القمة، كان الضباب يتلاشى إلى فضاء وارف. كانت طيور مالك الحزين تُغرق مناقيرها الطويلة في الماء، وتحرك نفسها على قوائم طويلة ورفيعة مثل الفتيات اللواتي يخشين أن تتبلل تنوراتهن.
لا شك أن مسألة السلطة في البلدان العربية لا تنفك عن إنتاج الإستبداد والإستبعاد وانتهاك حقوق الإنسان، وأيّاً كانت طبيعة السلطة، ديكتاتورية أم ديمقراطية، لم تشكل إلى الآن نقلة في حياة البشر. وإزاء هذا التسلط ينطلق الكاتب والشاعر العراقي عبد الزهرة زكي في كتابه (واقف في الظلام) من تجربته الشخصية أثناء اعتقاله من قِبل المخابرات العراقية في عهد النظام العراقي الأسبق، وبالتحديد في آخر عهده (2003)، "حقيقة لم استطع الفكاك، نفسياً على الأقل، من أيام الحبس، أيام (الحاكمية) سجن المخابرات الذي سيجد القارىء .. أني قلت عنه في هذا الكتاب: ما زلت يوماً أمر ببنايته (سجن الحاكمية) ولا أستطيع إلا أن ألتفت باتجاه تلك البناية التي تختصرها ذاكرتي بكل طبقاتها إلى مجرد زنزانة وغرفة تحقيق وقبو تعذيب، وهي الأماكن التي تشكل تلك الذاكرة عن هذا السجن وعن بنايته التي ما يزال يؤلمني أنها بقيت حتى الآن مكاناً أميناً ...". لا يكتفي المؤلف في حديثه بتصوير عملية الإعتقال، بل يحولها "إلى مسؤولية، مسؤولية الإيمان العميق بالحرية وقيمتها وبحفظ الكرامة الإنسانية ..."، وهو في هذا يوجه نداءه إلى مثقفي عصره أن تحركوا ولو بالقلم، "على أن لا نسمح للسلطات بارتكاب (أخطاء) يذهب ضحيتها الناس، وتُسحق حرياتهم وكراماتهم ...".
ظلّ فيتزجيرالد حتى آخر حياته يشعر بالحيرة من الفشل النسبي الذي أصابَ رواية (.. والليل رقيق)، بعد السنوات الطِوال التي بدّدها في تأليفها وجهوده التي بذلها لجعلها أفضل رواية أميركية في عصره. كان قد بدأها أثناء إقامته في الريفييرا في أواخر صيف عام 1925 . أولاً عملَ في فتراتٍ من الحماس الشديد، ومن ثم وضع المخطوط جانباً على مدى أشهر طويلة في وقتٍ كان يكتب خلاله قصصه القصيرة المُربحة لمصلحة ساترداي إيفننغ بوست؛ ولكن في أوائل عام 1932 عثر على تصميم أكثر طموحاً لها، وكان غارقاً في الدَين، مما دفعه إلى العمل فيها بمثابرة حتى انتهى من كتابة الفصول الأخيرة، وأجرى آخر المحذوفات على التجارب المطبعية. وشاهدها تنمو من مجرد رواية درامية قصيرة مثل غاتسبي العظيم، إلى رواية فلسفية أو نفسية طويلة على طراز سوق التفاهة، ومن ثم، وبينما هو يحذف مشهداً بعد آخر، راقبها تتقلَّص من جديد لتغدو رواية متوسطة الحجم، لكنه كان متأكّداً من أنَّ نبرة الرواية الأكثر طولاً ما تزال موجودة فيها. وانقضت تسع سنوات من حياته في الكتابة وفي القصة نفسها. وعند القراءة المتأنّية يجد المرء فيها إبهار صيفه الأول الذي أمضاه في كاب دانتيب – لأنه يستطيع أنْ يتصوَّر نفسه روزميري هويت في الرواية، إلى جانب لعب دور ديك دايفر؛ ثم مشاعره بشأن المال والمستويات المختلفة للمجتمع الأميركي: ثم صراعه مع إدمان الكحول وهواجسه حول كونه أصبح مُفلِساً في انفعالاته؛ ثم مرض زوجته وكل ما علِمه من الأطباء السويسريين والأميركيين الذين شخّصوا حالتها؛ ثم الحِكمة المريرة التي اكتسبها من التجربة ولم يتمكن من إعادتها إليها، بل إلى قصصه القصيرة فقط؛ ثم أيضاً أشياء أشدّ سواداً، إحساسه بالذنب، وخوفه من الكارثة التي تحولتْ إلى توقٍ إلى الكارثة - كل هذا موجود في الكتاب، بمستويات متنوعة، كمدن طروادة التسع المدفونة.
كرّست سيمون دي بوفوار حياتها للكتابة والبحث والاطّلاع والدّفاع عن قضايا المرأة في مختلف جوانبها دون أن يلهيها ذلك عن النّضال من أجل إنسانيّة يطيب فيها العيشُ، إنسانيّة خالية من العنصُريّة والجهل والاضطهاد. إلّا أنّ ما يُميّزها عن غيرها من الحقوقيّين هو نصّها الرّائعُ الذي ما انفكّ يرافقها في جميع مح طّات سعيها إلى إحراج الطّغاة على اختلاف طبيعة سلطاتهم (التميز بينَ الجِنسَيْن، البورجوازيّة، استغلال الدّين، اغتصاب الحُرّيات، الاستعمار، الدّكتاتوريّة..). بوسائل ضغط ميدانيّة وصحافيّة وأدبيّة وسياسيّة، على نحوٍ لا تتحقّق معه المطالب وتُعادُ الحقوق إلى أصحابها فحسب، بل أن يقف الجُناة – وهذا هو الأهمّ – أمام مسؤوليّاتهم وهم على دراية لا يكتنفها غموض بما تدينهم من أجله الإنسانيّة والتاريخ. فهي، إذًا، محاكمة للعتاة من جهة ودرس للأجيال حتّى لا تتكرّر أخطاء سوء الاختيار والتخاذل وتغليب المصلحة الخاصة على الإحساس العام بالقضايا. في الفنّ والمعمار أيضاً، من خلال اكتشافاتها وأسفارها الكثيرة حول العالم، كان لها وجهة نظر عميقة، اختلفت عمّا يرويه أدباء الرّحلة، فهي وإن بدت تنقل ما رأت أثناء زياراتها، فهي ترمي من وراء ذلك إلى تقصّي مسيرة الإنسانيّة في حيرتها الوجوديّة وبؤسها وطريقة تعبيرها عن أسئلة الموت والخلود وعن جدوى الإنجاز والتّضحية. ومن خلال قراءاتها وأحلامها أخذتنا دي بوفوار في جولة داخل عالمها السّحري المُتفرّد، وعرّجت بنا على علاقاتها وصداقاتها التي كان لها أثر عميق في حياتها، لاسيّما تلك التي جمعتها بالفيلسوف الكبير رفيق دربها سارتر. لكنّ الأهمّ في اعتقادي هو تفرّد سيمون دي بوفوار في إحساسها العميق بواجبٍ تجاه الوجود يُحتّم عليها سرد ما أتاحه لها هذا الوجود من فرص سفرٍ واطّلاع وتأمّل وأمجاد، كأنّها تدفع مقابلَ حياةٍ قُدّمت لها في شكل هديّة جميلة لا شيء يشكُرها سوى العمل. وهكذا سيشعر القارئ على امتداد الكتاب بأنّه مُنطلق في رحلة طويلة جذّابة في الصّورة والمعنى، ترجو من خلالها الكاتبة أن تعيره حواسّها وعقلها ووجدانها وحاضرها وماضيها كي يُشاركها امتنانها لما حَبَتْها به الحياة من مِنَح وأيّدتها به دون كثيرين من ظروف جعلتها تعيش أفكارها. وأخيراً، ولكي تجعل المتلقّي من كلّ زمن وبلد، بأسلوبها، شاهداً على أنّها أدّت ما عليها تجاه المُضطَهَدين أفراداً كانوا أم شعوباً وتجاه التّاريخ. وعلى أنّها سوّت حسابها أمام الضّمير والفكر.
ثل أبيلار هيلواز دفنا في قبر مشترك، ارتبط اسماهما معاً إلى الأبد. كانا زوجين من أزواج العالم الأسطوريين. لا يمكننا أن نفكر باحد منهما من دون التفكير بالآخر: سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر. في نهاية الحرب العالمية الثانية تبوأ سارتر وبوفوار، على نحوسريع، مكانة عالية بو صفهما مفكريَنْ حرين وملتزمين. كتبا في جميع الأنواع الاديبة: المسرحيات والروايات والدرا سات الفلسفية وقصص الرحلات والسيرة الذاتية والمذكرات و أدب السيرة والصحافة. وقد شكلت رواية سارتر الأولى «الغثيان» حدثاً في عالم الرواية الفرنسية المعا صرة. وغدت مسرحياته العشر حديث المو سم المسرحي في باري . وأحدثت درا ساته الفلسفية: «الوجود والعدم» و «نقد الفكر الديالكتيكي» وغيرها صدمة هذا إلى جانب بحثيه الأدبيين اللذين كرسهما لجان جينيه وغوستاف فلوبير. لكنه ربما سيُذكر على نحو أفضل من خلال سيرته الذاتية «كلمات»، هذا الكتاب الذي أكسبه جائزة نو بل. وسترتبط وبوفوار دائماً بكتابها الهام «الجن الآخر» وبمذكراتها وبروايتها اللامعة «المندرين» التي ا ستحضرت فيها جو أوربا بعد الحرب العالمية الثانية.