في عام 1955، بعد إقصاء أيرا عن المذياع بوضعه على اللائحة السوداء لكونه شيوعياً بأربعة أعوام، طَرَدتْ هيئة الثقافة مَري من منصبه بالتدريس لرفضه التعاون مع إدارة مكتب مناهضة النشاطات المعادية لأميركا عندما مرّت بنيوارك لعقد جلسات إستماع لأربعة أيام، ثم أعيد إلى منصبه، ولكن بعد مرور ستة أعوام من الكفاح القانوني انتهت بقرار 5- 4 أصدرته المحكمة العليا في الولاية، أعيد إلى منصبه مع الرواتب المتأخّرة، مُقتَطَع منها المبلغ الذي كسبه من أجل إعالة عائلته خلال تلك الأعوام الستّة كبائع للمكانس الكهربائيّة. قال مَري مبتسماً: "عندما لا تعرف ماذا تعمل، تبيع مكانس كهربائيّة، من باب إلى باب، مكانس كهربائية ماركة كيربي، تقوم بإفراغ منفضة ممتلئة على السجادة ثم تُنظّفها بالمكنسة الكهربائيّة أمامهم، تنظّف المنزل كله لهم، هكذا تبيع البضاعة.
تظهر رواية «تسارع الخطى» للروائي العراقي الرائد احمد خلف في ظروف باهظة الحرج، لم يشهد التاريخ لها مثيلا لا في العراق ولا في العالم. إنها بهذا المعنى تأخذ من الجنس التسجيلي بعض سماته ومن الجنس التاريخي سمات أخرى. لكننا لا نستطيع إسناد «تسارع الخطى» إلى احد الجنسين ليس لأن التسجيلي والتاريخي متداخلين بطبعهما فحسب بل لأن الرواية ولدت في حضن ظرف ملتبس من الصعب تحديد مميزاته التاريخية سياسيا واجتماعيا. فلا نستطيع مثلا تحديد هوية الصراع على انه صراع بين الجديد والقديم كما يحصل في العادة في ظل ظرف صار الجديد يستع?ر ادوات القديم البربري ذاته لرسم هويته، في القتل والاختطاف والسلب وبيع النساء واتخاذهن محظيات ووضع آدمية البشر في الدرك الاسفل من اولويات التقييم وكأن القائمين على هيستيريا اللامعقول يرومون نفي المجتمع عبر نفي آدميته والعبور به الى برسخ الموت، فلم يحصل الموت بمعنى الإماتة اي القتل على وسائل تبرير بالسهولة التي يحصل بها اليوم...
قلب الدين قال إنها عملية لها أربعة رجال. قالها بالباشتونية لأن لغتي الفارسية رديئة. « أكثر من أربعة » ، قالها لي ولضيا وداود ونحن نجلس ما بين قن الدجاج وغلال الكاموت « سنبدو كتجمهر مخالف للقانون، غير أن أي عدد أقل يعني أننا قد نتعرض لهجوم مباغت أو يجري سلبنا ونهبنا.» جلس على رأس دائرتنا وهو يفتل أحد طرفي الشارب الأسود الكث، ذلك الذي حاولت شقيقاته الأكبر دوما انتزاعه من شفير شفتيه لأنه يجعله أشبه ما يكون برجال العصابات الأتراك بجمالهم في خضم بهجة مسلسلاتهم التلفزيونية. قلب الدين كان خالي الصغير. في نحو الرابعة عشرة. هو الأكبر في ثلتنا. « ماذا لو كنا أربعة ونصفاً ؟ » . قلتها، وأنا أفكر في شقيقي. « ما الذي قلته لتوّي يا مروند ؟...) أكثر من أربعة يكون تجمهراً »، أجاب داود. « لكن نصفاً زيادة عله يكون مفيداً »، قلتها. « ليس النصف الذي تتحدث عنه »، قال داود، جالساً القرفصاء عند أقصى حافة لدائرتنا، ليشغل فضاءً كبيراً للغاية. داود كان خالي الصغير الآخر. في نحو الثانية عشرة. عمره هو عمري نفسه.
«يتميز هذا الكتاب بأهميته وحسن توقيته، حيث تستقرئ فيه ويندي مدى تعقيد العيش مع شخص نرجسي بأفضل صورة ممكنة، وبعبارات واضحة وأنيقة. يوفّر كتاب «تعرية النرجسي » كنزاً من الملاحظات والاستراتيجيات الثاقبة لمساعدة الأشخاص الذين يعملون مع شخص نرجسي أو يعيشون معه. وتستعين الكاتبة بحكمتها وإنسانيتها من جهة، وفهمها العميق وتعاملها الناجح مع علم البيولوجيا العصبية الشخصية والعلاج التخطيطي من جهة ثانية، بغية تقديم منظور جديد يساعد القارئ على فهم العلاقات التي غالباً ما تبدو محيّرة، وتسليحه بالأدوات اللازمة للتصرف حيالها. أنصح بقراءة هذا الكتاب من كل قلبي .» •
حظيت هذه الرواية باهتمام نقدي عربي وغربي جاد منذ صدورها باللغة الإسبانية أولاً في مدريد، ثم ترشحت طبعتها العربية ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) سنة 2010. وتُرجِمت إلى الإنكليزية والإيطالية والبرتغالية. تدور أحداثها بين العراق وإسبانيا وتتناول جوانباً من تحولات المجتمع العراقي على مدى ثلاثة أجيال، فتتطرق إلى ثنائيات ومواضيع شتى كالحب والحرب والدكتاتورية والحرية والهجرة والتقاليد والحداثة والشرق والغرب.. وغيرها. وقد وصفها الشاعر والناقد الأسباني مانويل رينا في مقال له عنها في صحيفة الآ بي ثي بأنها: «رواية مشحونة بالعاطفة، بديعة باستحضاراتها وحنانها وتمتاز بقدرة كبيرة على رسم التناقضات ونقاط الاختلاف والتلاقي بين ثقافات الغرب والشرق.. إنها بحق هدية للفكر والحواس». وقال عنها الفنان التشكيلي آنخيل باسكوال بأنها: «من الكتب المتميزة التي تشدك منذ صفحتها الأولى فلا تتركها حتى النهاية، وتحملنا بين أجواء عراق طفولة الكاتب وإسبانيا اليوم. وفي رأيي فإنها تتميز بالكثافة الشديدة والحساسية وجودة النوعية الأدبية.. مما يجعل من قراءتها تجربة عذبة ومثرية. بينما اعتبر الملحق الثقافي لصحيفة (الموندو) محسن الرملي بأنه واحد من أهم الأصوات في النثر العراقي المعاصر.
ولد الكاتب التركي فقير بايقورت عام 1929 في إحدى قرى محافظة بورضور. درس في معهد ريفي وعمل معلماً في القرى النائية مدة خمسة سنوات. ثم تابع دراسته الجامعية، وتخرج من كلية التربية –جامعة غازي- أنقرة. انخرط في العمل النقابي، وانتخب رئيساً لنقابة المعلمين في تركيا، ورئيساً للاتحاد القومي لروابط المعلمين ف ي تركيا، عمله النقابي أودى به إلى السجن عام 1971. وبعد محاكمات طويلة أمام المحاكم العسكرية حصل على البراءة. هاجر إلى ألمانية، وأقام في مدينة "دوريسبورغ" حتى وفاته في عام 1999. بدأ الكاتب شاعراً، ولكنه انتقل إلى القصة والرواية، وصدر له أربعة عشرة مجموعة قصصية واثنتا عشرة رواية. وكتب عدة مجموعات قصصية للأطفال. حصل على جوائز أدبية عديدة في تركيا، وقد حصل على جائزة "يونس نادي" للرواية عن روايته هذه عام 1958. تعتبر رواية ثأر الأفاعي أول نموذج لتيار "أدب الريف" الذي ظهر في تركيا في أواسط الخمسينيات، وهي ليست نموذجاً رائداً لهذا الأدب فحسب، بل بقيت إحدى أهم روايات هذا التيار. وأدب الريف لا يقتصر على تناول موضوعات الريف فقط، بل يبحث في فنيات خاصة معتمداً على لغة الريف. فالرواية مكتوبة بالأصل بلغة (أو لجهة) محلية، وهذا ما جعل الترجمة قريبة من لغة المنطوق. بايقورت أهم من صور الريف التركي، فقد صوره بعد معايشة عن كثب. نقلت هذه الرواية إلى السينما والمسرح، وأحدثت ضجة كبيرة في تركيا إثر صدورها، ووصلت هذه الضجة إلى مجلسي النواب والشيوخ، ونوقشت في جلسات رسمية لهذين المجلسين، وطالب بعض الأعضاء بمنعها عام 1962. قال عن هذه الرواية يشاركمال: "رواية ثأر الأفاعي عمل لن ينسى في أدبنا، وسيتبع". ما زالت تتوالى طبعاتها في تركيا، وقد طبعت بين عامي 1997-2001 ست طبعات.
فيما مضى، كان جميع البشر يخافون الموت. الموت مثل ضوضاء دائمة لا ينساها أحدٌ للحظة واحدة، ويعرف كل واحدٍ أنه في نهاية كل أعماله، سوف يَفنى. وكان هذا القلق المقيم يُفسد كل المسرّات. لدى وودي آلن، وهو فيلسوف أمريكي من نهاية القرن العشرين، جملة لوصف الحالة الذهنية المهيمنة في هذه الأزمنة:«طالما أن الإنسان سيفنى، لن يسعه أن يكون مرتاح البال حقًا»
ثلاثة نمور حزينة: لعبة لغوية ممتعة كان في ظهور التجريدية والسريالية ما فتح بابا لجدل من نوع جديد: هل الغرض من المعروض هو أن نمتّع ناظرينا به ونفهمه أم أن نعرّي خيالنا ونتعرّى لنغوص في أعماقه وننطلق باحثين عن الفهم ومن ثمّ عن المتعة؟ وهل سنجد في غوصنا ذاك ضالتنا؟ أم سنعود إلى الشاطئ بجسم مبلول ويد خا وية؟ وأخذَ الموضوع مداه، وانبرى المدافعون عن الاتجاه الجديد يحاولون تسويقه وإقناع الجمهور بجدة المنتج ووفرة مردوده وعوائده، فأقنعوا من أقنعوا ولم يهضم كثيرون مقولتهم في أنّ هذا التجريد وهذا الخروج من الواقع إلى ما فوقه أو تحته أو خلفه يعطي الناظر فسحة من التأمل والتدبر ليخرج بصورته هو وتصوره هو ورؤيته هو. فكأنّنا بالمبدع لاعبٌ يُنفذ ضربة البداية لينطلق الجمهور بعدها، كلّ مع كرته، نحو مرمى يتصوّر وجوده ويتصوّر تسديدته فيه. وكأنّنا به يرمي بالكرة في ملعب الجمهور وهو يردّد قول المتنبي: أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها ويسهرُ الخلقُ جَرّاها ويختصموا * وحدث في الأدب، وفي الرواية على وجه الخصوص، شيء شبيه. ففي ستينيات القرن الماضي اختطّت مجموعة من كتّاب الرواية الشباب في أمريكا اللاتينية نهجا عُرف بـ "البوووووم"، سرعان ما اتسع نطاقُه وتعددت صورُه وألوانُه حتّى أحدث ثورة وانقلابا. فعلا. لقد أحدث غارثيا ماركيث الكولومبي وبارغاس يوسا البيروفي وكورتاثار الأرجنتيني وكارلوس فونتيس المكسيكي وسواهم ثورة في عالم الرواية، موجّهة إلى لغتها ومضمونها وهيكليتها. ما عاد الأمر سردا خطّيّا خيطيا قوامه بداية وعقدة وحلّ، بل لقد خرج الأمر عن كلّ تسلسل وضرب بكلّ هيكليّة،
عام 1918 عنوان الكتاب الثاني من ثلاثية درب الآلام للكاتب الروسي ألكسي تولستوي، وهي رواية تقول شهادتها على مرحلة معينة عاشها المجتمع الروسي أثناء الحرب العالمية الأولى مروراً بالثورة البلشقية والحرب الاهلية الروسية بين الجيشين الأحمر والأبيض، حيث بدأ تولستوي كتابة هذه الرواية في اليوم الذي بدأت فيه الحرب الوطنية العظمي يوم 22 حزيران من العام 1941، ورصد خلالها الإنهيارات العامة والخاصة التي حصلت في تلك المرحلة، وقدم رؤية للواقع تتموضع أحداثها بين جدران أعضاء الحكومة المؤقتة وأصحاب البنوك الكبار، والجنرالات المشهورون، وبين ملايين الروس العائدون بالملايين وهم محشورين في قطارات لا نهاية لها، قادمين من الجبهة إلى بيوتهم في القرى، والسهوب، والمستنقعات، وهم يتساءلون! من نحارب، ولأي شيء؟...
في القراءة الأولى للكتاب الاول من "ثلاثية درب الآلام... الشقيقتان" يجد القارئ نفسه أمام حكاية ذات سارد هو نفسه شخصية من شخصيات القصة وهي ما اصطلح عليه في الأدب "الرؤية مع" وبالتالي يكون ألكسي تولستوي قريباً من الحوادث التي يرويها كونه أحد الأشخاص الذين جرت وقائعها لهم، ما عدا أنه شديد اللصوق بالأشخا ص الذين يتحاورون أو يتصارعون في هذه الحكاية، وخاصة إذا ما عرفنا أنه يتحدث عن مرحلة مفصلية مرت بها روسيا في حربها مع ألمانيا، ومن ثم عودتها من جديد إلى الحياة بعد مخاض من الآلام. وبهذا المعنى توج الروائي الروسي ألكسي تولستوي أعماله الروائية التي يصور فيها أحداث عصره في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع، بثلاثيته الملحمية "درب الآلام" التي حازت على جائزة الدولة عام 1943، فأعاد صياغة رواية "الشقيقتان" عام (1925)، وجعلها الجزء الأول من هذه الثلاثية. والرواية هي إضاءة ملحمية عن الوطن المضيّع والمستعاد، ويتمثل خطها الأساس في رسم طريق حيث يسود في الرواية هاجس يتمثل في أن السعادة الشخصية التي كان أبطالها الأربعة الرئيسيون يبحثون عنها لا تتحقق إلا حين ترتبط بسعادة الشعب والوطن. من أجواء الرواية نقرأ: "... كانت الصحف تصدر وفيها أعمدة غير مكتوبة، وكتبت الإمبراطورة إلى زوجها رسائل مُفعمة باليأس ساعةً إلى أن تثير فيه العزيمة وصلابة النفس، إلا أن القيصر ظلّ قابعاً كالمسحور في موغيليف وسط العشرة ملايين من المقاتلين الموالين له - وكان لا يشك في ولائهم، ولم تكن النساء المتمردات، واللغط في الطوابير على الطعام في بتروغراد يهمّه أكثر مما كانت تهمّه جيوش الإمبراطوريات الثلاث الضاغطة على الجبهة الروسيّة". "وفي ذلك الوقت وخفيةً من القيصر كان الجنرال ألكسييف رئيس هيئة الأركان للقائد الأعلى يعدّ الخطط في موغلييف لإعتقال القيصرة، والقضاء على الكتلة الألمانية في البلاط..."
"نهار غائم" عنوان الكتاب الثالث من ثلاثية درب الآلام للكاتب الروسي ألكسي تولستوي، وفيها يتابع الكاتب ما بدأه حول المشهد السياسي والإجتماعي لبلاده اثناء الحرب الأهلية الروسية بين الجيشين الأحمر والأبيض، حيث يتضح موقفه من الصراع أثناء حوار الشخصيات، والأمكنة وفضاء الحوادث التي تصوّر واقع الناس تصويراً يعبر عن المحتوى السياسي بما فيه من دلالات ومفاهيم أيديولوجية، يستوي في ذلك الموقف من الدولة ومن الشخوص، حيث ينفتح السرد على حوار يدور بين شخصين - رجل وامرأة - جالسين عندنا، موقدة، وريح باردة، كانا قد تعارفا في قطار كان يسير بجدول مواعيد غريب، وخط سير عجيب، ثم أخرجه القوازق البيض عن الخط، ليهرب من فيه هائماً في السُهب، فتروي المرأة حكايتها للرجل "في ذلك الوقت كان الجيش الأحمر قد اقترب من سامرا، وهربت الحكومة، كان شيئاً مقرفاً... وطلب أبي بأن أسافر معه، وجرى بيننا نقاش، وأظهر كلّ واحد مناماً في قرارة نفسه، وأرسل أبي في طلب الحراس: "ستشنقين، يا عزيزتي!... وبالطبع لم يأت أحد، فقد هرب الجميع، وخرج أبي إلى الشارع وليس معه غير محفظة للأوراق... أما أنا فهتفت له من النافذة بآخر كلماتي... لا يكره الإنسان أحداً كرهه لوالده أو بعد ذلك لففت رأسي بالمنديل، وارتميت على الأريكة! أنتحب! وبذلك انقطعت كلّ حياتي الماضية... وهكذا سارا - الرجل والمرأة - في السهب تروي له بقية الحكاية، مارين بالقرى التي أثارتها الحرب الأهلية، لا يكادان يلتقيان بأحد من الناس الذين لا يعرفون أن أحداثاً دموية كانت تجري في أماكن بعيدة، أما هما فقد قررا البدء بحياة جديدة
عبد الجليل الغزال، الناجي الوحيد من السجن الصحراوي، يتوكّأ على عكّازه ويجرّ جسده المعطوب تائهاً في الصحراء، ساعياً للوصول إلى قريته الأولى "وادي الدموع". يرافقه كلب السجان الذي أصبح رفيقه وأليفه في هذا التيه. في لهيب الصحراء، لا يجد عبد الجليل ملجأً غير الذكريات، بكل نداوتها وثقلها وقسوتها: ذكريات السجن القريبة وحكايات السجناء والسجّانين، الهجرة القسرية من قريته الأولى، شغفه الأول، اختطافه من بيروت و وجه حبيبته هدى...بين السجن، والحرية المفتوحة على العدم، والماضي بآلامه المبرّحة، دائرة يحاول عبد الجليل الخروج منها عائداً إلى وجوده الإنساني.
يعرض مكسنس فيرمن، ضمن إطار حكاية غير واقعية تقريباً، موضوعات راهنة، من غير التريّث عندها طويلاً، التقاليد، العشق، الوفاء، الفن.. ويختلط الشعر والعواطف والفلسفة في تناغم موسيقي ساحر. فتشكل باقة منوعة يجعل أريجها رأسك يدور انتشاءً. أما الثلج الكلي الوجود على طول الحكاية فيبرز على نحو خاص في اللحظات الهامة والحاسمة من القصة. وتشعر بالصدمة احياناً من اختلاط الشعر بواقعية قاسية، إلا أن الغنائية السائدة تمضي بك نحو عالم سحري
في رواية ثلج ستجد أجمل من السياسة برغم الجدل السياسي الذي أثارته، تلك المشاهد المتشابكة والكثيرة جدا، عن الهوية والأفكار والتاريخ والذكريات والبؤس في مدينة قارس الجبلية الرابضة فوق قمة أناضولية تحت الثلج، والتي تبدو رغم صغرها متاهة عالمية ووطنية معقدة من العوالم والأفكار والأحداث، الطلاب المتشددون و المتطلعون إلى مثاليات أقرب إلى المستحيل، والفقراء، والأكراد المنشقون، وبقايا وشواهد التاريخ الأرمني في المدينة، الكاتدرائية المهجورة، وعيون الليل وزوار الفجر، والبيوت التي تتدفأ بكهرباء لا تطالها عدادات الفواتير، وأجهزة تلفاز مفتوحة طوال اليوم، ولكن بصوت مغلق. الكتابة هي "عزاء الروح" أو هي الوجود، بالنسبة إلى الكاتب، هذه هي الطريقة التي يُعرّف فيها نفسه باموك في إيجاز شديد، حتى وإن كانت الكتابة نوعاً من التعبير عن الذات والحب.
في العقود الأربعة ما بين 1969 و 2012، عمل «مولود» في عدد من الوظائف المتنوعة بشوارع إسطنبول؛ من بيع الزبادي والأرز المطهو إلى حراسة موقف سيارات. يراقب مولود الناس بمختلف أشكالهم وشخصياتهم وهم يمرون في الشوارع، ويشهد تدمير وإعادة بناء المدينة، ويرى المهاجرين من الأناضول وهم يصنعون الثروات. وفي الوقت ذاته يشهد كل لحظات التحول المهمة في تاريخ المدينة؛ من صراعات سياسية وانقلابات عسكرية تشكِّل البلد. يتساءل مولود دائمًا عما يميزہ عن الآخرين، عن مصدر الغرابة التي تعشش في عقله، ولكنه لا يتوقف عن بيع البوظة في ليالي الشتاء ويحاول أن يفهم من هي حبيبته. ماذا يهم أكثر في الحب: ما نتمنى، أم ما يخبئه لنا القدر؟ هل تفرض علينا اختياراتنا السعادة، أم التعاسة، أم أن كل هذہ الأشياء تحددها قوى أكبر منا؟ تحاول رواية «غرابة في عقلي» الإجابة عن هذہ الأسئلة وهي ترسم التوتر بين حياة الحضر وحياة الأسرة، وغضب النساء وعجزهن داخل بيوتهن.
الشيطان الذي يتسيّد فوق العالم بأسره، جاء ذات يوم إلى بست، ووجد مخبأً في منزل متعهد دفن الموتى. وبعد الظهيرة لاحظ المتعهد أن شيئاً في البيت ليس على ما يرام. بدأت مفروشات المنزل تبدي ممانعة؛ فلم يطاوعه الكرسي الذي حاول أن يضعه في مكانه المعتاد منذ خمسة عشر عاماً، ورفضت أقفال الخزائن والدروج أن تقوم بالخدمة الموكلة إليها. واشرأبّ جانب النافذة الكرسيُّ الصغير (الذي اعتادت زوجة المتعهد طوال حياتها، أن تمدّد عليه رجليها، عندما كان لها رجلان) وتسرح ذابلة في فناء الأزهار الكئيب وجدرانه الحزينة وسياجه المهجور. اشرأبّ الكرسي كما يثب على قوائمه كلب كان مستلقياً، ويشرئبّ على ساقي عابر السبيل. وتدلّت ستائر الدانتيل القديمة بلا معنى على النوافذ، وألقت ظلّاً شبحيّاً في الغرفة. كان ظلّاً أشبه بظلّ دخان، أو ظلّ رياح تهبّ فوق الحقول. ولكن لا أثر هنا لدخان أو رياح. الجهامة التي خيّمت على المنزل في ذلك الوقت الباكر من فترة العصر، أربكت الببغاء الذي وضعه متعهد الدفن في قفص، وكان فخوراً بمعلوماته الإنكليزية. أول ما فعله الببغاء في هذه الجهامة أنه راح يطلق الشتائم باللغة الإنكليزية، ثم أخذ يقلّد بكاء الأطفال، ولاحقاً، وسط ذهول المتعهد، راح يتكلم باللغة المجرية: نطق أسماء كان قد سمعها في السابق، وحفظها، ذكر الببغاء أسماء خادمات حافيات سابقات، وهو ينفش ريشه، ويؤرجح نفسه باضطراب يمنةً ويسرةً. ذكر اسم بيرتا، واسم أولغا اللتين مثلتا سابقاً الجنس النسائي في منزل المتعهد، وكانتا تسرحان شعرهما الطويل وتجلسان حول الطاولة، وتضربان وتنفضان الوسادة قبل النوم؛ امرأتان كانت تنانيرهما المتيتّمة في الخزانة، تحتفظ برائحة نسائية نوعية، رائحة الباذنجان والطحين، وعبير المسك. أنذر متعهد الدفن الببغاء أنه سيصفعه، ونظر بارتباك إلى عقرب ساعته الذي راحت يد خفيّة تديره إلى الأمام. لم يبقَ لديه سوى قليل من الوقت ليبدّل ملابسه ويذهب إلى المآتم وقت العصر.
تسبح سمر يزبك في فضاءات الحلم، لا تركب عصا الساحرة، وإنّما الحروف والأشجار والمخلوقات الغريبة، أو تمتطي غيمةً عارية، وتزور عوالمَ خفيّة، في أعماق الذات والعالم. أحلام ليست كوابيس، وإنّما رؤى واقتحامات مختلفة وحكايات. كلّ شيء يمكن أن يحدث في الحلم، خارج كلّ القيود، وبعيدًا عن قانون الأواني المستطرق
كنت أشعر أن ما يقوله لا يحتمل أن أتناوله بالشكل الذي كنت أتناول به الأشياء في محيطي عادة. أحسستُ أنه علي أن أخرج من نفسي وأن أترك كل ذاكرتي لأعيد صياغة فكر آخر. فكر جديد أستطيع من خلاله أن أعيد تركيب أشلائي بالشكل الذي يجعلني قادرة على مواجهة وعي ابني المليء بكل هواجس المسلمات التي كنت حتى لا أعير لها أهمية. كم قلت لنفسي إنه عليّ فهم نفسي ولكن... ضجيج النمل لا يوقظ نائماً.