سوريا - سليم بركات - المدى
نَسْجُ "سليم بركات" من ذلك النوع الأدبي الذي يشغف بالتّحدي، تحدٍّ للأشكال الشّعرية من جهةٍ ومن ثَمَّ القذف بالقارىء إلى محيط الحيرة التأويلية لما يكتنف هذا "النَّسج" من مساحات معتمة. نسجٌ لا ينفكُّ يضعُ المؤوِّل في حالةِ حيرةٍ مريعةٍ؛ نسجٌ غيرُ معتادٍ في بنينةِ العَلاماتِ وإخضاعها لسلطان مخيِّلةٍ شعريةٍ تَهْتِكُ النِّظَام الدِّلالي في كلِّ حركةٍ للعَلامة، حتى تبدو "العربية" وكأنها تنطق بلغةٍ أخرى في انتظامها النَّصيِّ؛ بل إنّها تبدو غريبةً عَمَّا هي في نظامها الدلاليِّ ــ التداوليٍّ المتعارف عليه. وربما هذه "الغرابة" الأسلوبية التي تنتظم وفقها "شعرية" سليم بركات تكشف عن أسباب فشل استراتيجيات القراءة ــ ولاسيما تلك المتأسسة على فكرٍ جوهراني قارٍّ ــ في جَسْر المسافة بينها وبين هذه "الشِّعرية" الثرية والفريدة ضمن تجارب الشِّعرية العربية الحداثية وما بعدها، شعرية لاتني تفاجىءُ قارىءَ العربية بتشفيرٍ غير اعتيادي، وهو يخوض تضاريس نصيةَ تتشكّل من عوالم دلالية تشرف على العماء. ولذلك لابدَّ من التعامُل معها ــ مع هذه الشِّعرية ــ من زاوية أخرى. ويتهّيأ لي في هذا الصَّدد التنادي القويِّ بين نَسْجِ بركات والمفهومات التي ابتكرها "جاك دريدا" في سياق قراءاته التفكيكية (الاختلاف، الإخلاف، الأثر، اللاحسم الدلالي،...إلخ)، وهذا ما يجعلني أن أتمادى في القول إنَّ نَسْجَ بركات يزرعُ الاضطراب ويترك حالةً من اللاستقرار لدى القارىء الذي يندفع للوصول للنَّص، بيد أنَّ "الأخير" يرفض تحقيق هذه الرغبة، لأنّ "اللاــ وصول" أصلٌ فيه؛ ولذلك يظلُّ هذا "النَّصُّ"ـــ بدءاً من "كلُّ داخل سيهتف لأجلي، وكلُّ خارج أيضاً" وصولاً لقصيد "سوريا"ــ موضوع القراءة راهناً ــ يتحرّك بين وَهَبِ المعنى والامتناع عنه، وهذا ما نقصده بمفهوم "الوصول من عدمه بالنَّسبة لهذا النَّص. إنه يَشْغلُ دور "الآخر الغريب" الذي ينبثق بغتةً أمامنا؛ فنقع في حيرةٍ من الأمر، ذلك أنَّ "الغريب" يحمل معه "الغرابة" مما يهدّد الاستقرار لدينا ويجعلنا في حالةٍ من الدهشة والخوف بل الارتياع. لكن "الغريب" يحفّز على (آخره = القارىء) قراءته؛ فالدفع نحو الاستكشاف أصلٌ في آخر الآخر حتى يبدأ التواصل المرتقب. وليس بجديد القول إنَّ قصيدَة "سوريا" تشي بصرخةٍ مدوية في وجه "عزلة الكون" لما يجري في هذا البلد من تدمير وتنكيل وتهجير، الصرخة الشعرية تستحضر الصرخة الفنية لإدوارد مونش في لوحته الشهيرة؛ كما لو أنها تدفقت دفعةً واحدة، ولذلك فهي أقرب إلى "المرثية" من كونها "ملحمة"؛ فهي نصُّ الصّوت الواحد كما لاحظ أحد الشعراء، تخلو من تعددية الأصوات حيث ينشج راوي السرد الشعري فجائع هذا البلد نشيداً جنائزياً.
الكود الدولي: 9782843062353
السعر القديم: $5.00
$4.00